غزة ـ ناصر الأسعد
ينشغل عددٌ من الشباب بوضع فحمٍ في قطعة من الخيش، ويلفونها جيدًا قبل أن يسكبوا عليها قليلاً من الديزل المصري وزيتِ محركاتِ سياراتٍ أسودِ اللون يُطلقون عليه "زيت محروق". ويُشعل الشبان النار في "الاختراع الجديد"، الشعلة البدائية، ثم يربطونها إلى ذيلِ طائرةٍ ورقية، قبل أن يطلقوها في الهواء قرب السياج الحدودي الفاصل مع إسرائيل في منطقة أبو صفية شرق مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة.
قال أحدهم لرفيق له وهو يقود "الطائرة"، "ارخِ الحبل"، وهو الذي لم يستقل في حياته كلها طائرة أو قطاراً قط، إذ إن أكثر من 90 في المائة من هؤلاء الشبان لم يغادر القطاع يوماً. وفي سماء القطاع، لا تطير طائرات، بعد تدمير مطار غزة الدولي عام 2000 مع اندلاع "انتفاضة الأقصى"، باستثناء الطائرات الإسرائيلية من طراز "إف 16" الأميركية الصنع التي تقصف وتقتل وتدمر من ارتفاعات شاهقة.
وتنطلق الطائرة الورقية التي يُطلِق عليها الشبان "الطبق"، وتَصعد إلى السماء بحرية، فلا شيء ينافسها سوى "كاميرا طائرة" صغيرة يتحكم بها شاب بجهاز صغير بين يديه، ويوجهها من بعد لتلتقط صوراً "جوية" لآلاف الغزيين المدنيين العزل، وأخرى "درون" من دون طيّار إسرائيلية سوداء اللون تلتقط صوراً ساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة، لكل بقعة وحركة في القطاع الساحلي الصغير الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً، ويعيش فيه مليونا فلسطيني.
و"اختراعٌ" آخر جديد يستعمله الشبان لإيصال النار إلى "أراضي العدو" لحرقها، فـ "الحجارة" التي يلقونها لا تجتاز ذلك السياج الفاصل اللعين، الذي يفصل بين ملايين اللاجئين وديارهم التي هجّرتهم منها قسراً العصابات الصهيونية عام 1948. ويركض الشبان خطوات مبتعدين بعدما سمعوا أزيز رصاصة إسرائيلية، يسقط شهيد، ويسقط ثانٍ، ثم ثالث فرابع، ما يرفع عدد الشهداء إلى 37 منذ انطلاق المسيرات، ناهيك عن عدد الجرحى الذي ارتفع إلى نحو مئة حتى العصر في المناطق الخمس.
ويتوافد الناس جماعات وفرادى إلى منطقة أبو صفية بعدما بدأت حرارة الشمس تخفت تدريجاً. يقصُ الشبان حبل الطائرة ويراقبونها وهي تطير وتسقط بعيداً خلف السياج لتحرق مزروعات "العدو"، في منطقة حرجية لم يعلموا أن وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان كان يختبئ في واحدة مثلها ليراقب الأوضاع شرق غزة من كثب، كما أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية.
ويسأل الطفل خالد الشاب نور الدين أبو المعزة (25 سنة) الذي يرتدي قبعة بيضاء عليها شعار "مسيرة العودة الكبرى": "ليش (لماذا) هناك طائرات بألوان العلم وأخرى بيضاء". يضحك أبو المعزة الذي يعمل مرشداً وموجهاً للشبان ويحاول أن يبعدهم دائماً من مرمى الرصاص الإسرائيلي: "هذه طائرات مقاومِة، وتلك مدنية".
ليس هذا وحسب، فمنذ انطلاق المسيرة في 30 من الشهر الماضي، أصبح النهار في المناطق الخمس التي حددتها الهيئة الوطنية العليا لـ "مقاومة" الاحتلال سلمياً، أو بوسائل بدائية، تعيش على وقعٍ صاخب لأغاني الثورة، من "طالعلك يا عدوي طالع من بيت وحارة وشارع"، إلى أغاني أحمد قعبور "أناديكم، وأشد على أياديكم"، فيما يتحوّل الليل للسهر والسمر والشواء والأكل.
وقال أبو المعزة، "كما ترى، نهارًا إشعال النار في إطارات السيارات المستعملة لحجب رؤية جنود الاحتلال، وإرسال طائرات ورقية مشتعلة لحرق الأشجار والمزروعات"، مضيفاً: "وفي الليل، تبدأ حفلات السهر والشواء والأكل والأغاني الوطنية والتراثية".
أرسل تعليقك