نكبة الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

"نكبة" الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة

 فلسطين اليوم -

نكبة الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة

بقلم: خالد الحروب

ليس ثمة جديد في الإشارة إلى الأدوار المُعقدة والمُركبة التي تلعبها الأسطورة في تشكيل الهويات القومية الحديثة. كل قومية إثنية أو دينية احتاجت وتحتاج إلى جملة من الأساطير كي تبني عليها هويتها: تهاجر إلى الماضي، حتى لو كان ماضياً قريباً، لتبحث في اركيولوجيا التاريخ المنسي عن حدث هنا، أو بقايا معركة هناك، فتجلبها إلى الحاضر بكل قوة ومبالغة، وتحولها عماداً لما تريد تعزيزه وأدلجته. فجأة تصير لملمة شظايا وقائع وشبه وقائع متناثرة مكانياً وغير مترابطة زمنياً «تأريخاً» عضوياً ومتسلسلاً مكرساً للقومية المعنية، أو للأيديولوجيا، أو للفكرة المتوترة التي تبحث عن عراقة وشرعية مفقودتين. كتابات المفكرين الذين تأملوا في الآليات المدهشة لتصنيع الهويات، منهم جان لوك، ارنست رينان، بندكت اندرسون، هيو سيتون واتسون، ارنست غلنر، اريك هوبوزبوم، تشير إلى كيف يُفبرك التأريخ المُتخيل أمجاداً وبطولات وهويات لا قاسم بينها سوى الاصطناع والانتقائية والعلوية المُفترضة. من دون اختراع وإعادة اختراع أساطير الماضي، البعيد والقريب أيضاً، لا تقوم قوميات وهويات الحاضر، وعلى وجه التحديد الصلدة منها والمتوترة. هذه الأخيرة على وجه التحديد لا تعتاش إلا على تخليق عدو خارجي تظل تستثمر تهديداته سواء الحقيقية أو المتخيلة، كما نظر يوهان فيخته البروسي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك بهدف استنفار ميكانزمات الدفاع الجمعوي لقومية معينة بما يبقي هويتها دائمة الحضور وحادة القسمات.

المثال الأبرز سطوعاً هو القومية والهوية «الإسرائيلية» التي نبش مخترعوها وما زالوا ينبشون كل زوايا التاريخ لتخليق علاقة قوموية وهوياتية ودينية وارتباطية بفلسطين. الفلسطينيون لم يحتاجوا إلى ذلك الرحيل المضني في التاريخ لإثبات ذاتهم الجماعية وعضوية علاقتها بالأرض. لم يكن هناك هوس مرضيّ بقصة الهوية والقومية، وغياب ذلك الهوس هو البرهان الأكثر سطوعاً على عفوية وعمق العلاقة بالمكان. ضربة محراث الفلاح البسيط في الأرض كانت تختصر الحكاية، فيضيق صدر المهاجر اليهودي الأوروبي الذي يلبس بدلة وربطة عنق ويراقبه من وراء السلسلة الحجرية، فيشعر بالغربة والسرقة: من توصيف، على سبيل الأمثلة فقط، اميل حبيبي في المتشائل» إلى المشاهد الأخاذة لإبراهيم نصر الله في «زمن الخيول البيضاء»، وليس انتهاءاً بالتقاطات ربعي المدهون في «كونشيرتو النكبة والهولوكوست». في مشهد دراما المقارنة الجماعية هذا لم يكن الفرق الرهيب بين «حداثة المهاجر» و «محلية» الفلاح ليبعث على الاطمئنان الهوياتي في دواخل اليهود الأوروبيين، رغم ما يوفره هذا المشهد من إحساس حاسم بالتفوق المادي والعسكري. في قلب المحلية وعفوية الارتباط بالأرض وربما اللامبالاة الساذجة إزاء الغرباء والتي وسمت الفلاح، كان ثمة تجذر عميق أقلق ديفيد بن غوريون وعذبه، وهو يجول في الأرض مُدعياً تملكها الحاضر وامتداد ذلك التملك في التاريخ. كان مشهد الفلاحين الفلسطينيين وهم يحرثون أرضهم، بلباسهم التقليدي، ومحاريثهم البسيطة، لا يحتاج إلى تقعر تاريخي وأسطوري ينتحر يأساً لتأسيس علاقة عضوية بفلسطين. بن غوريون قادته الرغبة الفاضحة في الالتفاف على القلق الوجودي الذي بعثه فيه مشهد فلاحي فلسطين إلى إطلاق مقولة مُنهِكة ومُنتهِكة للتاريخ في شكل فج ملخصها أن فلاحي فلسطين وآباءهم وأجدادهم وكل أسلافهم ليسوا إلا يهوداً قدامى، تعود جذورهم «لليهود الأصليين الذين كانوا في فلسطين» لكنهم تحولوا إلى العروبة والإسلام في مراحل لاحقة من التاريخ!

في التأريخ للهوية الفلسطينية الحديثة تأتي النكبة لتلعب دوراً ملتبساً في إعادة التشكيل، ليست أسطورة، وليست ماضياً بعيداً، أو تاريخاً مشكوكاً فيه. حدث حقيقي، ممهور بالدم والمأساة والحسرة، ثم الثورة. على عكس الأسطورة الماضوية المُستدعاة قسراً لتخليق هوية راهنة، تحضر النكبة كواقع تاريخي طازج وحار يفيض بالراهنية، ويعمل على تشكيل وإعادة تشكيل هوية استفزت للدفاع عن حضور أصحابها. على هذا، تتموضع النكبة كواقعة وسيرورة وكارثة ورافعة تاريخية في قلب كل ما له علاقة بفلسطين الحديثة، وفلسطينييها، وتاريخها، وتحولاتها. وفي كثير من المقاربات تواجهنا مفارقة حقيقية، ذلك أننا كلما اعتقدنا تعقلاً أعمق لواقعة النكبة، كحدث مأسوي مؤسس في التاريخ الفلسطيني، والهوية الفلسطينية، والتاريخ العربي الحديث، والهوية العربية، اكتشفنا خطأ ما اعتقدناه.

النكبة تحولت إلى شيء معقد في الوجدان والوجود الفلسطيني: وهي خليط من أشياء. هي حدث حقيقي تناسل عنه واقع وترتب عليه هجرة وتهجير، وقيام دولة للعدو الذي تسبب في النكبة. وهي زمن بواباتي مركزي أغلق حقبة وفتح حقباً أخرى تختلف تاريخياً، وسياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، ووجدانياً. هي أهزوجة حزينة للجيل الذي ذاق مرارتها مباشرة. وهي الترتيل الليلي لفاجعة جماعية على وطن ضاع. هي الصدمة النهارية الدائمة للواقع الجديد. ثم هي بداية التمرد على الذات الجمعية التي سلمت قرارها لقيادات رخوة محلية أو عربية، فكان أن اكتملت الكارثة على أيديها. بذلك التمرد تحولت كارثية وتحسرية النكبة إلى طاقة فدائية وثورية أرادت أن تمحو العار، وتعيد صوغ الزمن. لكن تذرى جزء كبير من تلك الطاقة، أو كمن. صارت النكبة صندوق الذاكرة المليء بالمتناقضات: بالحنين إلى ماض لا يعود، بالهزيمة، بالتراخي، بالبساطة والسذاجة، بالجهل والتسرع في مغادرة الوطن، بجلد الذات ولومها وتحميلها جزءاً من مسؤولية ضياع البلاد، وبالنقمة على الشقيق الذي تخاذل عن المناصرة، أو قدمها مشلولة وشالة.

يولد عن النكبة عشية وقوعها أحد أكثر الوجوه الملتبسة والمكثفة والمحيرة في السردية الفلسطينية: المخيم. المخيم في لحظة ولادته كان عملياً ابن السفاح للجريمة التاريخية، كريهاً ومنقوماً عليه. كان البديل البشع والكالح للأمس الجميل والبرتقالي. اتساع أفق البيارات والبحر والقرى والجبال أُغلق فجأة وانحشر هو والناس في خيم ضيقة كئيبة، باردة، وغريبة. ظل المخيم وساكنوه محقونين بالصدمة والحزن والنقمة. بعدها بسنوات انتفض المخيم على ذاته التراجيدية التي لم يكن هو السبب في نشوئها، وفي قلبه تولدت الفدائية والثورة، ربما بمنطق ديالكتيك هيغلي مُدهش. انتفض اللقيط على من تسبب في مصيره، وصار المخيم في الوجدان الفلسطيني صنو الكفاح والصمود وإعادة تشكيل الذات. كاد المخيم يستولي على الهوية ويتماهى معها، رغم انه كبنية ثقافية وتاريخية واجتماعية واقع طارئ يجب أن يزول. لكن الالتباس ظل قائماً حتى هذه اللحظة. لنتأمل وقع وجرس أسماء المخيمات: مخيم الدهيشة، مخيم الامعري، مخيم الجلزون، مخيم الشاطئ، مخيم جباليا، مخيم البقعة، مخيم الوحدات، مخيم صبرا، مخيم شاتيلا، مخيم تل الزعتر، مخيم اليرموك. لنستمع ثانية لجرس، أو هل أقول موسيقى، تلك الأسماء ونتأمل الالتباس الذي تتركه والتداعيات التي تولدها في دواخلنا.

أمام كل هذا الالتباس النكبوي وما تولد عنه من التباس مخيماتي، وقف الإبداع الروائي الفلسطيني يتأمل ويفكك وينخرط. مركزية النكبة في أوجه الإبداع الفلسطيني لا تحتاج إلى تدليل أو شواهد، وكذا مركزية ابنها المخيم: اللقيط أولاً والمنتزع شرعية الأبوة ثانياً. توزع معظم ذلك الإبداع على مقاربة جوانب الكارثية، والحزن، والحنين، وأقله على جوانب النقمة والتأمل في المسؤولية الذاتية، والثورة على الذات والآخر. وقصر كثيره في الغوص في محرمات «نكبوية» لا تزال في حاجة إلى جرأة للتناول مثل هجرة ولجوء أهالي قرى وأرياف عديدة من دون أي صدامات عسكرية بل خوفاً من وصول المنظمات العسكرية الصهيونية وجنودها، مضحين بالأرض حفاظاً على العرض! تناول تلك المحرمات روائياً ودرامياً صار أمراً ضرورياً، لأن فيه درساً راهناً كبيراً يشير إلى ضرورة البقاء، البقاء في الأرض رغم أي حدث وأي نكبة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نكبة الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة نكبة الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة



GMT 23:29 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الحاجة كريستينا ... وحرب «العم» بلفور

GMT 00:51 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الوزير اليهودي المُنصف الذي عارض وعد بلفور

GMT 07:27 2017 الثلاثاء ,09 أيار / مايو

الحداثة والعلم من منظور الصهيونية في فلسطين

GMT 05:27 2017 الأحد ,09 إبريل / نيسان

انتفاء المثقف الخارق...!

GMT 05:19 2017 الأحد ,09 إبريل / نيسان

انتفاء المثقف الخارق...!

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 00:13 2020 الخميس ,09 تموز / يوليو

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيدة

GMT 12:35 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

يراودك ميل للاستسلام للأوضاع الصعبة

GMT 10:08 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تتمتع بسرعة البديهة وبالقدرة على مناقشة أصعب المواضيع

GMT 10:00 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس فتتأثر بمشاعر المحيطين بك

GMT 21:30 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

الشرق الأوسط والموعد الصيني

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday