خان يونس-فلسطين اليوم
48عامًا مرت وكأنها لحظات، فشريط أحداثها ما زالت تراود ذاكرة باحث الآثار الفلسطيني وصاحب متحف العقاد الأثري وليد العقاد (66عامًا) ، الذي كان شاهدًا على بسالة الجيش المصري أثناء العدوان على قطاع غزة عام 1967.
وكان "العقاد" يبلغ من العمر أنذاك (17عامًا)، لكنه يعي المرار الذي تجرعوه، وصنوف العذاب التي مروا بها، مُتنقلين من منطقةٍ لأخرى، هربًا من بطش الكيان "الإسرائيلي"، الذي أكل الأخضر واليابس أثناء غزو فلسطين بما فيها قطاع غزة.
"مرارة العيش، ومحاولات طمس الهوية، وقتل آلاف الفلسطينيين، والمجازر التي ارتكبت بشكلٍ متتال"، جعلت "العقاد" يحتفظ بكل ما يعثر عليه، ليبقى وثيقة وشاهد وذكرى للأجيال التي لم تحضر تلك الأيام، حتى لا تنسى تاريخها الحافل بالأحداث، والمواقف العربية المُشرفة، التي جسدت الوحدة أمام العدو الوحيد "إسرائيل".
ومن بين تلك الأحداث التي كان شاهدًا عليها بشكلٍ مباشر، استشهاد ضابط مصري على رأس مجموعة فلسطينية مُسلحة، أثناء عملية نوعية نفذوها، بعد استهداف جيب عسكري "إسرائيلي" وسط خان يونس، وقتل جميع من بداخله، وهم أكثر من ثلاثة.
ويقول "العقاد" في سرده لتفاصيل العملية لمراسل "صفا" الذي حل ضيفًا في متحفه المنزلي، "في يوم الاثنين 5 حزيران (يونيو) العام 1967، اشتدت الهجمة "الإسرائيلية" على قطاع غزة، بل كانت حربًا شاملة، والقصف من كل اتجاه جوًا وبرًا وبحرًا، ودخل جيش الاحتلال من عدة محاور".
ويضيف، "في ذاك الوقت تم تشكيل قوات مصرية فلسطينية للدفاع عن القطاع، في عهد الإدارة المصرية، ومع اشتداد القصف والهجوم، خصوصا على مقر الكتيبة المصرية المجاور لمنزلنا، أجبرت أنا وأسرتي على تركه، والذهاب لمكان أمن، وكان وجهتنا لمنطقة الوادي وسط خان يونس، وهي منطقة منخفضة عن سطح الأرض) وأكثر أمنًا".
ويتابع العقاد، "نزلنا للوادي بعيدًا عن أنظار الاحتلال، القريب من مسجد مصطفى العقاد، أو المحطة حاليًا، ووجدنا بالقرب منا قوة مصرية فلسطينية مشتركة يرأسها ضابط مصري في كمين خلف ساتر رملي، على بعد 15مترًا".
ويستطرد، "أتذكر جيدًا أن والدي طلب من الضابط المصري وبرفقته جنديين فلسطينيين إلى الوادي للاحتماء من القذائف "الإسرائيلية" خوفًا عليهم، فرد عليه قائلاً "معلش يا حج احنا كويسين ما تخافش علينا المهم انت خليك مكانكم".
ويواصل العقاد سرد الحكاية، " فجأة ظهر جيب عسكري "إسرائيلي" بداخله قوة مدججة بالسلاح، على الفور بدأت القوة المشتركة بإطلاق النار باتجاههم من العيار الثقيل، ما أدى لاحتراق أجزاء من الجيب، وقتل جميع من بداخله وتقدم الضابط المصري مع الجنديين الفلسطينيين، للتأكد من مقلتهم جميعًا".
ويمضي العقاد، "بعد التأكد من مقتلهم وعددهم أكثر من ثلاثة، عثروا على خرائط عسكرية مهمة بداخل الجيب، وأثناء عودتهم ظهرت دبابة "إسرائيلية" من بعيد، قادمة لمكان العملية، فأطلقت قذيفة، أصابت الضابط المصري "محمد فتحي فرغلي" من سكان المحلة الكُبرى في محافظة الغربية بشكلٍ مباشر".
ويسرد، "أصيب مجاهد فلسطيني بجراح في قدمه، وحمله زميله ونقله مسرعًا من المكان برفقة الخرائط، التي أرسلها للقيادة لاحقًا، فيما زحف والدي على بطنه نحو الضابط، وسحبه للوادي الذي نختبئ فيه، وقطع من ملابسه ووضع "حطته/ العقال" على بطنه المُصاب لوقف نزيف الدم".
ويشير، "العقاد" بعدما تنهد قليلا، "لم يلبث أن استشهد الضابط فرغلي، وجراء اشتداد القصف والمعارك، لم نتمكن من الذهاب والخروج من مكاننا لدفنه في مقبرة العائلة، فقمنا بالحفر بجوار شجرة لوز قرب الوادي، بملابسه العسكرية دون أخذ شيء، سوى "الساعة، والبطاقة".
بعد أسبوع انتهت تقريبًا العمليات العسكرية، وجاء الصليب يبحث عن الجنود المصريين المفقودين، وسلمه أقارب العقاد بطاقة الضابط والساعة.
وبين "العقاد" الذي كان شاهدًا على بسالة الجيش المصري والفلسطيني وعلى مجازر الاحتلال، "بعد نحو 43عامًا من الحادثة، قرَّرت بلدية خان يونس أن تفتح شارع في المنطقة التي دفن بها الضابط، وكان لا بد من نقل الجثمان لمكان أخر".
وينوه "حينها فتحنا القبر ووجدنا متعلقات الضابط الشهيد ما زالت تحتفظ برائحتها الزكية، بقايا الحذاء "البسطار"، والخوذة، الحزام "القايش"، والسترة "الدرع،الجعبة"، الجرابين "الشرابات" المشبعة بالدماء".
ويوضح، "شاهدت هيكل الجندي، وأكثر ما لفتني دمائه التي ما زالت على ملابسه، وقمت بنقل قبره بجوار قبر والدي، الذي توفى قبل سنوات من هذه الحادثة، ووضعت شاهدًا على قبره باسمه وتاريخ الاستشهاد، واحتفظت بملابسه داخل منزلي، الذي تحول لمتحف فيما بعد، ويعج بآلاف القطع الأثرية لمختلف العصور".
ومنذ تلك العملية التي وقعت قبل نحو "48عامًا" يواصل "العقاد" البحث عن أهل الضابط ليسلمهم مقتنياته، ويخبرهم بعمله البطولي، وبسالته في التصدي لجيش الاحتلال.
أرسل تعليقك