مصر التي نحبها 2 من 2
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

مصر التي نحبها (2 من 2)

 فلسطين اليوم -

مصر التي نحبها 2 من 2

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

منذ العهد الأيوبي حتى خروج العثمانيين، توقفت مصر عن الإبداع الفكري والمادي، باستثناء محاولات "محمد علي" لبناء دولة عصرية، والتي دفع ثمنها ثلث الشعب المصري، حيث أجبر على العمل بنظام "السخرة".

مثّل مشروع "محمد علي" الطَموح سابقةً فريدة في الشرق، حيث كانت مصر حينها أول دولة عصرية في الإقليم، وبدأت تظهر فيها معالم الحداثة والتقدم، لم يتمثل ذلك في تجهيز بنية تحتية متطورة ونظيفة، أو في شق قناة السويس (التي ستغير معالم النظام الدولي)، بل في تكوّن نواة نخبة مثقفة، ذات توجه حداثي ليبرالي، أخذت تنافس وتحل محل الأزهر.

 لكن الثقافة الشعبية ومنذ العهد الفاطمي، أبدعت الكثير: المعمار الفاطمي، المشربيات، الأرابيسك، السبيل، التكية، زينة وفوانيس رمضان، مدفع الإفطار، المواسم الدينية، الأعياد الخاصة كشمّ النسيم، الموالد، الأفراح، التصوف، الحرف التقليدية، الألقاب، الأمثال الشعبية، بالإضافة للرقص الشرقي والنكات والأكلات المصرية الشهية، والحلويات المميزة كالبقلاوة.. فصارت تلك العناصر سمات خاصة بالثقافة الشعبية المصرية.. شرقية المظهر، عربية الملامح، إسلامية المحتوى، متسامحة، بسيطة، ولها جذورها الفرعونية.. لهجتها مهذبة، وعذبة، ولها روافد مختلفة اللغة في الصعيد والواحات والنوبة وسيناء.

في بدايات القرن العشرين كان الشيخ محمد عبده مفتي مصر، وهو شخصية معتدلة، ذو فكر متنور ونهج منفتح، فصار الفضاء الديني امتداداً لشخصيته؛ مرناً، متسامحاً، محلقاً.. والتدين الشعبي بسيطاً وفطرياً ونقياً، فظهرت كوكبة من العلماء والأدباء والفنانين والمفكرين شقوا بداية الطريق لنهضة مصرية كان يمكن لها أن تنتج الكثير..

ما عزز ذلك، تبلور طبقة أرستقراطية من بقايا الإقطاع، ذات تقاليد راسخة، لديها وسائل إنتاج وطنية، وطبقة وسطى عريضة متعلمة، ونظام سياسي وفّـرَ قدراً معقولاً من الأمن والحريات والازدهار الاقتصادي، رغم ما شابه من فساد وترف واستبداد، وهيمنة الإنجليز على مراكز صنع القرار.. انتهى هذا العهد الملكي بسلبياته وإيجابياته في ثورة يوليو 1952.

كان عبد الناصر أول مصري يحكم البلاد منذ ألفي سنة، فطوال هذه المدة كل الذين حكموا مصر لم يكونوا مصريين.. وهذه ليست السمة الوحيدة في تاريخ المصريين؛ فقد بدلوا ديانتهم ولغتهم ثلاث مرات على الأقل.. طيبة المصريين، وبساطتهم، وفقرهم، وبرتوكولاتهم الاجتماعية بمضامينها الطبقية.. عوامل موضوعية أثرت عميقاً في تشكيل التاريخ المصري.

وكما بالغ الناصريون في تشويه صورة العهد الملكي، بالغ الإسلاميون في تشويه صورة عبد الناصر وثورته، وقللوا من أهمية منجزاته.
لم تنحصر مآثر عبد الناصر في تأميم القناة، أو بناء السد العالي، أو القضاء على الإقطاع، ووعود بعدالة اجتماعية.. كانت في خطابه السياسي، رغم شعبويته، حيث استشعر كل عربي في زمنه بمعاني الفخار القومي، كانت خطاباته وأغاني أم كلثوم مطلع كل شهر أهم عنصرين في توحيد مشاعر العرب أجمعين.. وكانت مصر في مصاف الدول القوية، وذات دور إقليمي محوري.. لكن أخطاء عبد الناصر كانت مثل منجزاته؛ كبيرة..

رغم سياسات "السادات" الاقتصادية والاجتماعية، التي سماها "الانفتاح"، وكل ما نتج عنها من أزمات، إلا أن طعم الزمن الجميل كان ما زال ماثلا طوال عقد السبعينات، لكنها شكلت مقدمات للحقب التالية، التي اتسمت بالنكوص وتراجع مكانة مصر.. وستظل في انحدار مستمر طوال ثلاثة عقود من عهد مبارك..

ستقوم ثورة يناير، وستطيح بالرئيس المستبد، لكنها ستعجز عن إحداث التغيير المجتمعي والفكري كشرط أساسي لاستئناف النهوض من جديد، وستمر على البلاد فترة من الفوضى، ستنتهي بقدوم أول رئيس مدني منتخب "مرسي"، الذي سيحكم سنة واحدة، وسيقترف فيها من الأخطاء ما يكفي لاندلاع ثورة شعبية ضده، سيخطفها العسكر من جديد.

عندما كانت قِبلة مصر المعرفية والثقافية باتجاه الشمال والغرب، ظهر أحمد شوقي، وطه حسين، وعباس العقاد، والمنفلوطي، والمازني، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وعبد الرحمن بدوي، ولطفي السيد، وعلي عبد الرازق.. وعندما تحولت صوب الشرق، تمثلت الفكر الوهّابي، فظهر محمد عمارة، وسليم العوا، والشيخ حسان، والشيخ كشك، وعمر عبد الرحمن، وزغلول النجار، ووجدي غنيم.
وهو "تطور" عكسي، كانت نتائجه نكوص الثقافة المصرية التقدمية والليبرالية المنفتحة على آفاق الأنسنة واستبدالها بثقافة متزمتة مغلقة.

وهي انتكاسة مماثلة لما ألمَّ بالإنتاج الفني والأدبي والسينمائي والمسرحي، ففي العقود الثمانية الأولى من القرن العشرين لم تتوقف مصر عن الإبداع بكل أنواعه، فظهرت أم كلثوم، وعبد الحليم، وعبد الوهاب، والأطرش، وشادية، وسعاد حسني، وأحمد زكي، ونور الشريف ونادية لطفي، وعشرات غيرهم.. لكنها بعد ذلك ستفقد قدرتها على تجديد مثل هؤلاء العباقرة.. ستظهر ما تعرف بالسينما النظيفة، وظاهرة الفنانات المعتزلات، والأغاني الشعبية الهابطة، وسيهبط سقف الحريات كثيراً، وستنشغل الحكومة ومعها المجتمع في محاكمات المفكرين وقتلهم، وتكفيرهم، ومطاردة المعارضين واعتقالهم، وسيصير التطرف الديني، والعشوائيات، والتحرش بالنساء السمات الجديدة للحياة اليومية المصرية.. وسيهبط مستوى الإعلام.

لكن مصر، ورغم كل ما أصابها تظل عصية على الكسر؛ تداولها الفاتحون والغزاة فابتلعتهم، دخلها العرب فقادتهم، تعاقب عليها الطغاة والمستبدون وظلت منارة إشراق وإبداع، أصيبت بالنكسة، فاجترحت العبور، وقّعت حكومتها "كامب ديفيد"، فرفض الشعب التطبيع، وحتى في أسوأ مراحلها قدمت "زويل"، وفاروق الباز"، و"مجدي يعقوب" و"مصطفى السيد".

مصر التي في خاطرنا هي الشيخ إمام، وفؤاد نجم، وأمل دنقل، والأبنودي، وعمر محجوب، وعبد المنعم رياض.. هي بليغ حمدي والنقشبندي وعبد الباسط، هي الأزهر ودار الهلال والمعارف ومدبولي، ومقهى الفيشاوي، والأزبكية، والحسين، والنادي الأهلي، وليالي الحلمية.. هي ابن البلد بخفة ظله، والصعيدي بسمرته وشموخه، هي عيون بهيّة، والعمال الكادحون.. هي التي أنتجت قبل كل البشر الأديان والشعر والأدب.
ذُكرت في القرآن مقترنة بالأمان، وبخزائن الأرض، وهي التي أُفرد لها عِلم خاص سمي "علم المصريات".. هي أرض الكنانة، والمحروسة، والشقيقة الكبرى لكل عربي.
يحتاج المصريون من أجل المستقبل ثورة فكرية وثقافية، تعيد بناء الإنسان المصري.

قد يهمك أيضا :  

  عن أي عنصرية تتحدثون؟

    مـصـر الـتـي نـحـبـهـا (1 من 2)

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مصر التي نحبها 2 من 2 مصر التي نحبها 2 من 2



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 15:43 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

مناخا جيد على الرغم من بعض المعاكسات

GMT 09:49 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تجنب اتخاذ القرارات المصيرية أو الحاسمة

GMT 09:51 2021 السبت ,09 كانون الثاني / يناير

عمرو موسى يؤكّد أن العمل العربي المشترك لم يفشل

GMT 13:37 2020 الأحد ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

في «طعم البيوت» نباتات الزينة لمسة جمال في منزلك

GMT 11:18 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

"الكلاسيكية العصرية" عنوان منزل بيورك في مانهاتن

GMT 17:12 2017 الأحد ,10 كانون الأول / ديسمبر

دنيا سمير غانم تهنئ نادية لطفي على التكريم وتعتذر لها

GMT 22:11 2016 الخميس ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الاهلي يصرف 100 ألف جنيه مكافأة إلى بطلة الكاراتيه "فاروق"

GMT 00:18 2017 الإثنين ,26 حزيران / يونيو

غيغز وغوارديولا يتنافسان في إحدى منافسات الغولف

GMT 16:07 2016 الأربعاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

اتحاد المرأة يبحث مع التعاون الألماني تعزيز التعاون المشترك

GMT 08:52 2016 الثلاثاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

"مكسيكو سيتي" إحدى أكثر المدن أمانًا في أميركا الجنوبية
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday