بقلم : عبد المجيد سويلم
لا أحد في الساحة الفلسطينية يرغب بتسعير نار أيّ نوع من الخلاف مع أيّ دولة عربية في ظل ما يحيط بالقضية الفلسطينية من أخطار وأهوال وتحديات غير مسبوقة بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
ولا أحد بالمقابل يخفى عليه كيف أن الحالة العربية تشكل في الواقع إحدى نقاط الضعف الكبيرة في الواقع المحيط بالحالة الفلسطينية.
ويكاد الكل الفلسطيني أن يُجمع على أن الحالة الفلسطينية الداخلية، والتي تشكل نقطة الضعف القاتلة في هذا الواقع المرير، تصبح عندما تنضم إلى بؤس الحالة العربية، وإلى تراخي الحالة الدولية بسبب ضغوطات الإدارة الأميركية والقيادة اليمينية في إسرائيل، وبسبب هوان وضعف الحالتين العربية والفلسطينية، تصبح عنوان مأزق كبير وخطير وغير مسبوق على حد سواء.
كما أن هناك من اليقين ما يكفي، ومن المشاعر ما يفيض، ومن الإحساس ما هو قوي وعميق، بأن ثمة من الأدوار التي قامت بها قطر في السنوات الأخيرة ما هو في صلب تعزيز حالة الانقسام والإبقاء على التشرذم، بل وفي مفاصل ومحطات معينة ما هو إمعان مباشر في التشجيع على الانفصال، بل وأحياناً البحث عن وسائل «جهنمية» لإذكاء الخلاف والاختلاف كلما اقتربنا من إعادة النقاش الجاد لإنهاء هذه الحالة الشاذة والمدمرة في الواقع الفلسطيني.
نفس هذا الإجماع الشعبي الفلسطيني على خطورة الدور القطري سواء المكتوم أو المجاهر به، وبما يشمل جزءاً من القاعدة الشعبية لحركة «حماس» نفسها وجزءاً أكبر من القاعدة الشعبية لحركة الجهاد الإسلامي، هذا الإجماع يدرك إدراكاً واعياً أن «قلب» قطر ليس على الفقراء في القطاع؛ لأن عقلها يهدف إلى تدجين حركة «حماس» و»إدراجها» في خطط التوظيف الأميركي والإسرائيلي لهذه الحركة في محاولة تفتيت الجسد الوطني، والنيل من المشروع الوطني، والانقضاض على وحدة التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني، والتي هي عنوان الحقوق الوطنية الفلسطينية وأهداف النضال الوطني التحرري لهذا الشعب.
ومن المفجع حقاً أن «يكتشف» الشعب الفلسطيني أن الأمور قد وصلت إلى التنسيق بين «الموساد» الإسرائيلي وبين قطر؛ «لتأمين» ما يلزم من أموال وهبات وإغراءات للإبقاء على حركة «حماس» داخل جوقة الإيقاع السياسي لليمين الإسرائيلي، في ظرف حساس، وفي مرحلة مفصلية كالتي تعيشها القضية الوطنية بعد طرح خطة الإدارة الأميركية لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي الوقت الذي يحتاج فيه الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة بالذات إلى لملمة صفوفه، وتوحيد كل مكوناته في مواجهتها. وكأن ما يجري من محاولات التطبيع بين الكثير من البلدان العربية مع إسرائيل «لم يعد كافياً» لكي يتسيّد اليمين الإسرائيلي المشهد السياسي في إسرائيل، ولكي يمعن سرقةً واستيطاناً ومصادرةً وضماً للأرض الفلسطينية، ويواصل التنكيل بهذا الشعب في كل شبر من الأرض المحتلة، إضافة إلى عمليات التهويد الجارفة للقدس، وإلى تجويع الشعب الفلسطيني ووضعه تحت «رحمة» سياساته العنصرية بما في ذلك تلك الموجهة إلى أهلنا في الداخل.
الموقف الرسمي الفلسطيني الذي «اعتاد» على الحذر الشديد في التعامل مع كل خطايا النظام العربي حيال التطورات التي تعصف بالقضية الوطنية، ربما لم يعد متفهماً من قبل شرائح واسعة من الجمهور الفلسطيني، على الرغم من أن درجة معينة من هذا التفهم ربما تظل حاضرة في الوعي الشعبي، بسبب صعوبة الظروف، وبسبب حاجة النظام السياسي الرسمي الفلسطيني إلى درجة معينة من استمرار علاقاته بالواقع العربي، وربما حاجته المالية الماسة لهذه العلاقة، وباعتبار أن هذا الواقع العربي تحوّل إلى ما تحوّل إليه من نتاج سنوات طويلة من التراكم السلبي على هذا الصعيد، إلاّ أنه ومع كل ذلك ظل النظام العربي بالعموم يرفض - ولو من الناحية الشكلية - المجاهرة بالاستعداد المباشر للتساوق مع المخططات الأميركية والإسرائيلية.
وفي المقابل، فإن النظام السياسي الفلسطيني يدرك أن بعض البلدان العربية لا «يمكنها» أن تكون حليفة قوية للولايات المتحدة، وأن تكون في الواقع تحت مظلة «الحماية» الأميركية، وألا تستجيب لدرجة أو أخرى من درجات «التطبيع» مع إسرائيل، ولهذا فإن القيادة في الغالب لا تذهب إلى أبعد من بعض الإشارات للتدليل على معارضتها لهذا النوع من التطبيع مهما كان محصوراً ومهما كان رمزياً.
لكن موقف الحركة الشعبية الفلسطينية هو الأكثر مدعاةً للدهشة والاستغراب.
الحقيقة أن الأمور على هذا الصعيد تبعث على أشد درجات الأسى والمرارة.
فإذا كان الوعي الشعبي يدرك بحسه السياسي اليقظ أن الموقف الرسمي له [بعض] ما يبرره أحياناً، إلا أن «تفهّم» موقف الحركة الشعبية ليس وارداً بأي شكل من الأشكال إلا ّفي حالة قطاعات معينة من حركة «حماس»، باعتبار أن تياراً واسعاً داخل هذه الحركة هو بالأساس متساوق مع الموقف القطري، بل ويسعى لتعزيز هذا الموقف. أما بقية الفصائل أو غالبيتها الساحقة فإنها لم تتخذ ولا لمرة واحدة من المواقف ما هو أبعد من بيان هنا وتصريح هناك إدانةً أو لوماً أو استنكاراً. وهو أمر - كما أرى - شجع ذلك التيار داخل حركة «حماس» على المضيّ قدماً في التساوق مع الدور القطري الخطير، تماماً كما شجع قطر نفسها على الاستمرار في هذا الدور دون أن تحسب أي حساب لموقف الحركة الشعبية. عندما كان يجري إدخال الأموال بوساطة نتنياهو إلى قطاع غزة، كان هناك من ينادي «بتفهّم الأمر»؛ باعتبار أن هذه الأموال تساهم ولو قليلاً في التخفيف من الأعباء المعيشية لبعض أشد الفئات فقراً وعوزاً في القطاع.
وعندما كان يتم الحديث عن «مشاريع» هنا وهناك، فقد رأينا كيف أن البعض حاول تسويق هذا الأمر وكأنه للتخفيف من أعباء الحصار الإسرائيلي.
أما أن يتم تنسيق الأمر بصورة رسمية بين «الموساد» والدولة القطرية، فهذا زاد عن كل حد، وفاق كل التوقعات والتصورات والمعادلات والحسابات.
السكوت هذه المرّة ليس ككلّ مرّة.