المعهد الثقافي الفلسطيني الفرنسي

"في باريس، كلهم يريدون أن يقوموا بالتمثيل. لا أحد يريد أن يكون مشاهِدا" يقول جان كوكتو في وصف أهل باريس. وعلى ذلك المنوال، هبطت ثلاث طائرات في مطار شارل ديغول الفرنسي. ثلاثة شعراء فلسطينيون نزلوا في باريس، وفي حقيبة كل منهم ما يمكن ارتداؤه لدرجات حرارة ما بين 15 و 20 درجة مئوية، بالاضافة الى ما يمكن قراءته لتمثيل الشعر الفلسطيني ولاستعادة جماليات الوطن  والإنسان خلال بضعة أيام من الشعر والموسيقى. كنت اول الواصلين الى باريس، طرت قبل يومين من موعد الأمسية الشعرية الاولى كي أتجنب التعب الجسدي المتعلق بفارق التوقيت بين تورونتو وباريس. كنت متشوقا لرؤية الشاعر غسان زقطان والشاعرة رجاء غانم. كان بودّي ان ارى الشاعرين جهاد هديب وفادي جودة اللذين تمت دعوتهما ايضا، لكنني علمت مسبقا أنهما اعتذرا عن الحضور. 

الثلاثاء 22/09/2015
لم يكن بالامكان تجاهل الضحكات العالية أسفل غرفة الفندق. لم يتعلق الامر بفلاشباك او نوستالجيا حالمة لصداقات قديمة، بل هي ذاتها ضحكات الصديق الشاعر أنس العيلة، المدير الفني للمعهد الثقافي الفلسطيني الفرنسي. كان يتحدث مع غسان زقطان الذي وصل قبل قليل. سارعت للسلام، لم أر غسان منذ عشر سنوات تقريبا. لم يتغير أبدا، ذات الابتسامة وذات الصوت؛ الذي يعلن شعريته العالية دون قصد أو قصيدة. تحدثنا عن الزمن الذي مر وعن انطباعات سريعة عن البلد والشعر وباريس في خريفها المبكر.

في سنته الثالثة، هناك نكهة خاصة للقاء الشعري الفلسطيني الذي ينظمه المعهد الثقافي الفلسطيني الفرنسي في باريس كل عام. فهو لم يقم فقط بجمع شعراء فلسطينيين من جغرافيات مختلفة او أساليب شعرية مختلفة، لكنه جمع بين شعراء من "الجيل الشعري الفلسطيني ما بعد أوسلو" بتعبير الناقدة الامريكية السورية ناتالي خانقان، مع غسان زقطان؛ أحد الشعراء المؤسسين لتوجه شعري جمالي مهم في الشعرية الفلسطينية الحديثة. لقائي برجاء غانم وأنس العيلة من جهة وغسان زقطان من جهة أخرى سحبني بقوة تشبه قوى حرب النجوم الى العامين 1999 و 2000، عندما كان جيل كامل من الشعراء (منهم وليد الشيخ، أنس العيلة، محمود ابو هشهش، ورجاء غانم) يبحث عن قصيدة جديدة. غسان زقطان بقصيدته الطازجة واشتباكاته النقدية السريعة والراحل حسين البرغوثي بفلسفته الشعرية الثاقبة كانا هناك على ذات الطاولة. هناك كان قِدر القصيدة الفلسطينية الجديدة يغلي باحتمالات جمالية مميزة، اثبتت حضورها مع الوقت بالرغم من ضعف الديناميك النقدي. لم يكن باستطاعتي أن أتغلب على الصورة العوليسية التي كانت امامي، صورة مرتحلين في المكان/الزمان/الشعر، حيث الراحل حسين يقف بين غسان وأنس في شارع إيميل زولا وسط باريس، ويقول ، كأنه يملي علي تلك الصورة ويريد التأكد من رسوخها "فاهم علي؟"

كان هناك موعد على العشاء يجمع الشعراء مع مديرة المعهد الثقافي الفلسطيني الفرنسي امينة الهمشري و الموسيقار الفلسطيني المقيم في باريس باتريك لاما. تحدثت مع باتريك عن القدس التي ولد فيها. تحدثنا ايضا عن طبق الفواغرا الذي يحبه كثيرا. كان المطعم باريسيا أنيقا، والطعام ايضا، لكن الحوار كان فلسطينيا بالصوت والصورة على الرغم من سطوة المكان. أجيال فلسطينية عديدة تجمعها فكرة وضع فلسطين على خارطة العالم الفنية، وابراز صوتها كقوة فاعلة في التجريب والابداع. 

الأربعاء 23/09/2015
في ظهيرة اليوم، تجمع الشعراء في مقهى صغير بجانب الفندق. اتفقنا ان نعتمد ذلك المقهى المدعو كافيه دو كوميرس، بالاضافة الى مقهى آخر في شارع إيميل زولا كمركزين للتجمع خلال إقامتنا القصيرة في باريس. اكتشفنا فيمابعد ان غسان يمر على مقهى ثالث ليأخذ قهوته الصباحية السريعة، بحيث تكون "تصبيرة" قبل الجلوس لطلب القهوة والتدخين.

عودة الى وصف كوكتو لسكان باريس. من الملفت للانتباه ان الجالسين امام المقاهي الباريسية، الذين يشربون القهوة او يأكلون هم ممثلون ايضا فالعابرون يشاهدونهم، وهم يشاهدون العابرين. اذا هو مشهد ازدواجي يتيح للمارة والجالسين ان يقوموا بالتمثيل. كنّا نناقش ذلك بينما كان احدنا يأخذ صورة للمشاركة على فيسبوك. كان عنوان الصورة "مقهى رام الله في باريس". 

اليوم موعد الأمسية الشعرية الاولى في بيت الشعر الفرنسي. لم يتعلق الامر بإلقاء القصائد فقط، بل بالتنسيق مع من سيلقي القصائد بالفرنسية. ايضا، هناك غناء اوبرالي لقصيدتين من قصائد غسان زقطان، بصحبة الموسيقار الفلسطيني باتريك لاما. انتهت الأمسية بنجاح، واحتفاء طيب من جمهور فرنسي وعربي أصغى باهتمام. لفتت انتباهي قدرة الممثلين الفرنسيين (البرفيسور فيليب تانسولان والممثلة لينا سواليم) اللذين قرءا القصائد بالفرنسية، على القراءة الشعرية الدقيقة لقصائدنا. أعني بالقراءة الدقيقة الاحتفال بالكلمة، بالمساحات بين الكلمات، وبالايقاع الدّاخلي، وذلك أمر يتم تجاهله عربيا في كثير من الأحيان عند التعامل مع قصائد النثر او مناقشة موسيقيتها بالنسبة لاشكال شعرية اخرى مثل شعر التفعيلة والشعر العمودي.

الخميس 24/09/2015
لم أبرمج نفسي لمقابلات إذاعية، لكنني وجدت نفسي (مع الشاعرة رجاء غانم) مُبرمَجا لحوارين مع إذاعة مونت كارلو وإذاعة الشرق. أسعدتني أسئلة مذيعة مونت كارلو الذكية غادة خليل. كان غسان ساعتها في مبنى قريب تابع لمحطة تلفزيون فرانس 24 الفرنسية. هناك تحدث عن علاقات الشعر بالوطن والمنفى.

ابتهجت عندما تم اقتراح زيارة الفنان السوري الكبير سميح شقير في مطعم "سيريانا" الذي يملكه ويقع في احدى ضواحي باريس. كان لقاءا حميما، تكلمنا عن حبنا لسوريا وأخذنا بعض الصور مع الفنان الكبير. كان جميلا التواصل بين غسان وسميح، الكلام عن قصائد غسان التي صارت أغنيات سميح وعن ذكريات سوق الحميدية الذي كان خلفنا في كل صورة. أدهشتني ابتسامة سميح شقير التي لم تنقطع طيلة اللقاء، ابتسامة توحي بالثقة والامل.

الجمعة 25/09/2015
اليوم موعد الأمسية الشعرية الثانية في معهد العالم العربي في باريس. القاعة أضخم مما توقعت او اعتدت. هناك توقعات ان يحضر اكثر من 200 شخص. بعد الانتهاء من بروفة سريعة، بدأ الجمهور بالتوافد، وعلى رأسهم مدير معهد العالم العربي وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانغ، الذي تقدم لمصافحة الشعراء الثلاثة. بعد ان امتلأت القاعة، كان الشعر الفلسطيني ينحت في الهواء الباريسي مخطوطة جديدة، ويبرهن ان المشروع الأدبي الفلسطيني حي وقادر على الانتماء لروح الشعر العالمي والثقافة الانسانية.
قرأ غسان من مجموعته الاخيرة قصائد "لا أعرف الطريق الى حلب"، "ثلاثة شعراء سوريون في المنفى"، و"تمطر على الشارع المشجر". قرأت رجاء من مجموعة "سيدة البياض" قصائد "بوابة الحنين"، "هروب القصيدة"، و"ارق". وقرأت قصائد "يد حمراء"، "وطن"، و "لافتة تقول أورشليم القدس". قصائد معاصرة، فيها اقتراحات فنية ناضجة، بإمكان الشعر ألفلسطيني ان يجد لها مقاعد في المقدمة.

بعد الأمسية، كان هناك لقاء سريع مع الجمهور وحوارات عن القصائد. من بين الحوارات كان هناك حوار قصير مع الشاعر غولان حاجي والمترجم محمد العمراوي. كان هناك حوار ايضا بين غسان وشاعرة أمريكية تسكن في باريس، وحضرت خصيصا لمشاهدة الأمسية. بعد ذلك، كان لنا موعد مع عشاء طيب اخير في بيت السيدة امينة الهمشري وزوجها هادي فرج. 

السبت 26/09/2015
اليوم موعد الخروج من باريس. قلنا وداعا لشارع إيميل زولا، للقهوة الصباحية، للذين أتوا ليسمعوا شعرا من وعن فلسطين. شكرًا للمعهد الثقافي الفلسطيني الفرنسي. شكرًا للشاعر غسان زقطان والشاعرة رجاء غانم على الصداقة في الشعر والوطن.