الحاجة لمصالحة تاريخية بين المثقفين والسلطة
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

الحاجة لمصالحة تاريخية بين المثقفين والسلطة

 فلسطين اليوم -

الحاجة لمصالحة تاريخية بين المثقفين والسلطة

د.إبراهيم أبراش

منذ أن أعدمت سلطة أثينا الفيلسوف سقراط 470 ق م بتهمة إفساد العقول ورفضه نهج السلطة القائمة ، ما زالت العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة شائكة ومتوترة وفي كل يوم يُعدم أو يُعتقل أو يُضطهد (سقراط) ما في بلد ما على يد رجال سلطة مُستبِدين وجهلة صيّرتهم الظروف في موقع القرار . ومع ذلك فإن الصورة النمطية لعلاقة السلطة والمثقف والتي تُظهر المثقف دائما ضحية والسلطة جلاد ، هذه الصورة تحتاج لإعادة نظر من حيث التعميم .

التركيبة الشخصية للمثقف وطبيعة عمله تؤهله لأن يبقى في برجه العاجي ، منتقدا السلطة ومدافعا عن الحق والعدل ، متمسكا بالثوابت والمطلقات ، مدعيا الطهورية الخ ، ما دام لا يمارس سلطة بشكل مباشر . ولكن هذا لا يعني أن كل المثقفين ملائكة ، أو أن كل من يتم تصنيفهم كمثقفين أو يزعمون أنهم كذلك ، مثقفون بما تعنيه الكلمة من معنى . وفي نفس الوقت فليست كل السلطات والحكومات على نفس الدرجة من حيث نظرتها وتعاملها مع المثقفين .

إن كانت السياسة فن الممكن بالنسبة للسياسيين ، فهي بالنسبة للمثقفين – الأدباء والكُتاب والفنانين والأكاديميين - فن التمسك بالثوابت الوطنية و التعبير عنها وغرز قيمها عند الجمهور بكل أشكال الإبداع ، والمصلحة الوطنية تكمن في القدرة على التعايش بين هذين الفنين أو الأمرين وجسر الفجوة بينهما ، دون أن يُلغي احدهما الآخر أو يحاول ذلك لأن المجتمع يتاج للطرفين . ومن هذا المنطلق فإن تماهي أو تطابُق منطق ووظيفة المثقف مع منطق ووظيفة السلطة غير وارد ، كما أن تبادل الأدوار مع احتفاظ كل منهم بماهيته أمر صعب إن لم يكن مستحيلا ، وخصوصا في مجمعنا العربي .

كون المثقف غير مُطاَلب بأن ينفذ أفكاره إلا في أضيق الحدود ، فهذا يعطيه هامشا واسعا للكتابة والحديث وممارسة النقد ، ولكن دون يقين بصحة أفكاره ودون قدرة على اختبار أفكاره ميدانيا . لذا فإن تصيّر أفكار المثقفين واقعا يحتاج لرجال من طينة مختلفة ومواصفات مختلفة عن المثقفين ، فالتعامل مع الواقع يختلف عن التعامل مع الأفكار والنظريات ، ودائما وعبر العصور وفي كل مناحي الحياة هناك فجوة بين الفكر والواقع .

يمكن أن يتوافق المثقف مع رجل السياسة والسلطة فكريا ونظريا ولكن عند الممارسة سيحدث الافتراق ، ولو أُسنِدت السلطة لمثقف فقد يضطر للتراجع عن كثير من مواقفه وأفكاره أو يجمد ويؤجل العمل بها ، ليس بالضرورة لأنه أكتشف خطأ مواقفه ورؤاه السابقة أو فقد إيمانه بها أو أغرته السلطة ، بل لأن للسلطة والتعامل مع الواقع استحقاقات ومحددات .

الشعوب لا تعيش على الثقافة والفكر والتنظيرات فقط ، ولا يتم تسيير أمورها بالفكر فقط ، بل تحتاج لمن يُحَوّل الأفكار إلى واقع ، ولمن يحميها من النزعات الشريرة داخلها ومن العدوان الخارجي ، وتحتاج الشعوب أيضا لمن يسوس أمورها ويلبي احتياجاتها الحياتية من مأكل وملبس وتعليم وصحة . وبالتالي تحتاج المجتمعات لسلطة ورجال سلطة على كافة المستويات ، من رجل الشرطة والأمن إلى مدراء الإدارات والمؤسسات حتى الوزراء والرئيس ، وهؤلاء ليسوا ملائكة لأنهم من المجتمع و نتاج ثقافته ، والمجتمع ليس عالم ملائكة بل فيه كل أصناف البشر .

لا يعني هذا حتمية أن تكون العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة صدامية وعدائية أو تكون قطيعة مستمرة . فمن أجل المصلحة الوطنية وفي بعض المنعطفات المصيرية كمواجهة عدو خارجي يجب البحث عن هامش مشترك بين الطرفين أو حالة تصالح واحترام للأدوار المُسنَدة لكل طرف. ليس بالضرورة حتى أكون مثقفا أن أكون ضد السلطة بالمطلق ، وليس دائما أو حتميا أن السلطة ضد الثقافة وكل المثقفين ، فالمثقفون ليسوا عالم الملائكة والسلطة ليست عالم الشياطين . المثقف لا يعادي السلطة من حيث المبدأ بل يعارض المعوج من ممارساتها وهو في نقده يهديها أخطاءها لتصحح اعوجاجها ، هذا إن كانت السلطة سلطة ديمقراطية وعير فاسدة .

المثقفون ليسوا عبيدا عند السلطة وليست مهمتهم تبرير أعمالها والدفاع عن توجهاتها ، كما لا يمكن أن يُرضي المثقفون الجميع . حتى يرضى المثقف الجميع عليه أن يعتزل الكتابة أو مجال تخصصه وإبداعه الثقافي ، وبالتالي يتجرد من ماهيته وكينونته كمثقف . توافق السلطة وتصالحها مع المثقفين والمفكرين هو ذلك المستحب صعب المنال ، لأنه في حالة صيرورته واقعا تتجلى السلطة كحالة مثالية أو كالمدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون والفارابي وكل الطوباويون الحالمون ، إلا أن صعوبة تحققه لا يعني استحالته المطلقة أو القطيعة التامة ،فما بين العدم والمطلق كثير من الاحتمالات والفرص، والديمقراطية كفضاء لممارسة الحرية في إطار القانون هي إحدى هذه الفرص .

المشكلة تكمن في سعي السلطة السياسية في عالمنا العربي وتحديدا المُفتقرة للشرعية أو ذات الشرعية المأزومة ، إما لمحاصرة وإقصاء المثقفين ورجال الفكر أو تجاهلهم وكأنهم غير موجودين أو اعتقالهم إن لم تستطع تسخيرهم لأغراضها أو رشوتهم أو تسخيرهم ليصبحوا أبواقاً لخطابها ومدافعين عن نهجها . ولأن مفهوم السلطة مفهوم واسع وامتداداتها متشعبة ، فإن الطامة الكبرى أن يقوم صغار مستقوون بالسلطة التي بيدهم بمعاقبة واضطهاد مثقفين لمجرد أنهم يخالفونهم الرأي أو ينتقدون سلوكهم الخاطئ .

أكثر ما يسيء لرجل الفكر محاولة تجريده من مبادئه والتلاعب به كمجرد قطعة نرد يمكن تحريكها من هذا المربع لذاك المربع ، مع أنه حتى في لعبة الشطرنج مثلا لكل قطعة قيمتها وأهميتها واللاعب الجيد هو من يُحسن استعمال كل قطعة حسب موقعها وأهميتها . وإذا كان رجال السلطة منقسمين جماعات وتيارات ومتناحرين فيما بين بعضهم البعض ،فرجل السلطة العاقل هو الذي يجنب رجال الفكر هذه التناحرات ويعذرهم إن وضعوا أنفسهم خارجها .

علاقة رجل الفكر برجل السلطة يجب أن تقوم على ما يمنح كل طرف كينونته ومبرر وجوده : الحرية الفكرية لرجل الفكر ، والسلطة- سلطة الأمر والنهي وعلاقة تبعية وخضوع في إطار القانون - لرجل السلطة ، وحيث إن التماهي بين الطرفين بعيد المنال الآن فستبقى العلاقة ما بين الطرفين كاللعب على أوتار مشدودة . رجل السلطة لن ينسى بأنه رجل سلطة ، والسلطة مصالح وحَدِّ من الحريات ، ولن ينسى رجل الفكر بأنه رجل فكر ، والفكر مبادئ وحرية لا يحدها إلا القانون .

لا يجد المثقف الحقيقي غضاضة في أن يتقاطع بل أن يلتقي مع السلطة إن كان ذلك ممكنا ، ولكن السلطة ليست مصدر قوته ومواقع السلطة إن كانت على حساب المبادئ ليست مرامه . ستجد السلطة في المثقفين مَن يخافون عليها بقدر ما يخشون سوء ظنها فيهم وسوء فهمها لهم ، وإن تخلصت السلطة من بطانة السوء التي تحيط بالزعيم وتتحكم بمفاصلها من أنصاف المثقفين والانتهازيين ستجد دوما من يَصدُقها القول ويقف لجانبها دون انتظار ثمن أو حتى كلمة شكر .

في زمن التحديات والانهيارات الكبرى التي يشهدها عالمنا العربي حيث الأوطان مُهدَدة بوجودها يجب إعادة صياغة العلاقة بين المثقفين ورجال السياسة وتأسيس مصالحة تاريخية بين الطرفين . المثقفون يريدون سلطة ورجال سلطة أقوياء ولكن في مواجهة أعداء الشعب وبما يحفظ وحدة المجتمع واستقراره ، ويريدونهم مستنيرين ومتفتحين حتى على من يخالفهم الرأي .

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحاجة لمصالحة تاريخية بين المثقفين والسلطة الحاجة لمصالحة تاريخية بين المثقفين والسلطة



GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

GMT 21:30 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

الشرق الأوسط والموعد الصيني

GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 14:58 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

محمد رمضان يتحدّى منافسيه بفيلمه "هارلي"

GMT 01:45 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

بطولة كأس البحرين لسباق الخيل تنطلق في بريطانيا السبت

GMT 18:37 2016 السبت ,17 كانون الأول / ديسمبر

مفيدة شيحة تُهاجم غيتس خلال "الستات مايعرفوش يكدبوا"

GMT 07:55 2019 الأحد ,13 كانون الثاني / يناير

انتخاب نساء أكثر في الحكومات يُقدّم مساهمات حقيقية

GMT 13:31 2018 الإثنين ,23 إبريل / نيسان

الدكتور علي جمعة يقدم برنامج "فن الدعاء" على "CBC"

GMT 05:28 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

إنتاج علاج جديد للسرطان يمنع انتشار المرض

GMT 20:24 2017 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

النجم حسن الفذ يُعلن عن استعداده لعرضه الفني الجديد

GMT 04:55 2015 الأحد ,27 كانون الأول / ديسمبر

أستاذ تاريخ يشبه إزالة "رودس" بتدمير داعش آثار سورية

GMT 10:11 2015 الجمعة ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على أسرار جمال اللون الكحلي في زفافك
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday