الطلياني توترات تونسية على إيقاع عربي
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

"الطلياني": توترات تونسية على إيقاع عربي

 فلسطين اليوم -

الطلياني توترات تونسية على إيقاع عربي

خالد الحروب

لا هو من قبيل الخفة في التعبير ولا السخرية في القول الزعم بأن تشابه الهموم العربية مشرقا ومغربا يُعد وجها من العناصر المشتركة التي تؤكد عوامل وحدة العرب، مثاليا ونظريا على الأقل. واستنساخ التعامل مع تلك الهموم من الجار العربي جزء من تلك العناصر أيضا. لماذا، تأملاً، تعاقبت ثورات الربيع العربي من بلد عربي لآخر، ولم تنتقل الى بلدان الجوار غير العربي: إلى النيجر وتشاد، أو تركيا وإيران، او إثيوبيا وأرتريا، على سبيل العدوى مثلاً؟ على كل حال ليس هذا حديث هذه السطور، لكنه بعض مما تثيره قراءة الكاتب والمثقف التونسي القدير شكري المبخوت في روايته الممتعة "الطلياني". 
هنا نقلب ملفات إرث البورقيبية التي شكلت تونس ما بعد الاستقلال، وتمثلاتها المتنوعة: ثقافة، واجتماعاً، وتسيساً، ...، واستبداداً. والبورقيبية، وكما كانت الأتاتوركية، حالة تفيض بالدراما ذاك انها متعددة الأوجه وحمالة للتفسيرات، وفيها وعليها ما يكفي ويؤهلها للتمرد على أي محاولة توصيف اختزالية. هي قاطرة تونس نحو الحداثة ولولاها لربما ظلت البلد يترنح في زنقات التقليد، ثقيلة الخطوة، ومترددة الاتجاه كما هو حال كثير من البلدان العربية والإسلامية. وهي، اي البورقيبية، رفعت مقام المرأة التونسية ودفعتها الى موقع متقدم قياساً بنظيراتها في الجوار العربي وربما بعده. لكنها، اي البورقيبية، كانت استبدادية وأبوية صرفة تحوم حول "المجاهد الاكبر" وما يراه ويقرره. في عنفوان شبابه ونضجه وعطائه امتلك جبروت الشخصية كي يقود البلاد ويفرض رؤيته لتونس المنطلقة نحو المستقبل والمنفلتة من الماضي. في مراحل العنفوان تلك داس على المعارضة وهمشها، يسارييها أولاً ثم إسلامييها. حُشر المعارضون في الجامعات واتحادات الشغل، وانفرد القائد الأوحد بتوجيه دفة البلاد.
لكن عندما استبدت حتمية الزمن بالقائد واحتلت الشيخوخة والعجز ما كان نصيبا للعنفوان واليقظة، تقدم احد اخلص مساعديه ليخلص البلاد من ما صار يُرى نزقا في القائد وليس حكمة فيه. صار لا بد من إنقاذ البلاد من مؤسسها وحاميها الاول، فجاء زين العابدين بن علي. وعد الشعب، ويسارييه وليبرالييه وإسلامييه، بعهد دستوري جديد، قوامه الثورة على فكرة "تسلم الحكم مدى الحياة". كان ذلك سنة 1987، وكلنا نعرف بقية القصة بعد ذلك. هذه هي السردية العريضة للواقعة التونسية في النصف الثاني من القرن الماضي وصولا الى لحظة سقوط المنقذ بن علي. خلف هذه السردية كانت حياة المجتمع تمور بكل ما تمور به مجتمعات العرب: امتدادات عميقة ومتواصلة وراسخة للموروث الاجتماعي، والديني، والقبلي، والأبوي، يعشش بعيدا عن، ورغما من، احلام النخب سواء أكانت حاكمة أم معارضة؛ يسار متصاعد يبحث عن موقعه بين حكم ليبرالي السمت لكنه استبدادي النزعة، وإسلاموية ناهضة تعتاش على الموروث وتحرض وارثيه على رفض الحداثة وتغريبها المجتمع; بنى اقتصادية هشة لم تتمكن لا من تطهير رقاع الفقر العريض، ولا من استيعاب أجيال الشباب الذين فاض كثيرهم في شوارع البطالة تتلقفهم تنظيمات متطرفة، او عصابات التشرد، او بكل بساطة مشاعر الضياع والتوهان. قليلهم تمكن من الهرب من الأوطان والهجرة للخارج والارتماء في أحضان الغرب المشتوم صباح مساء؛ وكل ذلك وغيره تحت سيطرة نظام سياسي مطبق الإحكام على المجتمع، فيه الحريات السياسية مجففة، والمناصب العليا ونصف وربع العليا محجوزة للمنافقين والمتسلقين والمداحين.
في قلب تلك التناقضات وفي بيئة متوسطة عادية نتعرف، وفي المشهد الاولى من الرواية، على عبد الناصر، الشاب المتمرد الناقم على عائلته، وهو يسير ساهما في جنازة والده الحاج محمود. في لحظة الدفن والعشرات من محبي الحاج يتحلقون حول القبر ويرددون الأدعية والآيات وراء "الإمام علاله"، إمام جامع الحارة، الذي يزجي رأس الحاج محمود فوق اللحد، ينتفض عبد الناصر ويضرب بقدمه وجه الإمام بكل قوة فينفر منه الدم، ويغادر المقبرة ساهما والكل تصعقه المفاجأة، ومعها تتحول الجنازة إلى فوضى مباغتة. بعد هذا المشهد الافتتاحي نحتاج الى اكثر من ثلاثمائة صفحة كيف نفهم سبب هذا التصرف "الأرعن" الذي لم يكن ليليق بابن الحاج محمود صاحب السيرة الحميدة المشهود لها من الجميع. حوقل الناس وعادوا الى بيوتهم مذهولين، ولا يقل عنهم ذهولا القراء الذين استعجلوا تقليب الصفحات لمعرفة السبب. بين دفتي الكتاب، ومن ضربة الشاب اليساري المتمرد لوجه السلطة الموروثة وإلى معرفتنا بأن إمام الجامع ذاك حاول مرارا الاعتداء جنسيا على عبد الناصر أيام كان ولدا صغيرا يحوم في الحواري وحول الجامع، نجوب مع المبخوت في حكايا تونس، وتوتراتها، وناسها، وفقرها، وأيديولوجياتها، وحيرتها، ونسائها، وسير العشق المكتمل والمنقوص.
عبد الناصر، والذي يعرفه الجميع بلقب اسبغ عليه باكراً وهو "الطلياني" نظرا لـ "وسامته الأوروبية"، شخصية درامية بامتياز، وفيه كل التناقضات الممكنة. فهذا اليساري المهجوس بتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع، والمناضل عن حقوق الناس في وجه السلطة، هو نفسه الشخصية المرذولة من قبل عائلته، وهي العائلة التي لا يهتم بها، وكأنها تقع خارج تعريف "الشعب" و"المجتمع" الذي يدافع عنه. نبله في النضال وفي الحب عندما تعرف على زينة، الريفية القروية، المُبهرة في الجامعة وفي تفوقها في الفلسفة، لا يوازيه إلا نذالاته وخياناته المتكررة لمن اعتبرها قديسة قلبه. تنظيراته في ضرورة الثورة الجذرية واقتلاع الوضع القائم واستبداله، تنزوي تدريجيا لصالح أفكار "الإصلاح من الداخل" والاقتراب من دوائر النظام والاشتغال في ماكينته. أفكار "الإصلاح من الداخل"، عمليا وحياتياً، يقع جذرها في الحاجات المادية وإكراهات الحياة، والتنظير المؤدلج لها ليس سوى التكرار المعروف لنفس القصة، حيث تُوظف مهارات لغة الأيديولوجيا لسوق المسوغات والمبررات لنقض تلك الأيديولجيا نفسها، او تحويرها لتتواءم مع الخيارات الجديدة. 
شقيق عبد الناصر، صلاح الدين، يقدم إطلالة مُعلمة في الرواية فهو المتفوق دراسياً، والذي انهى الدكتوراه في الاقتصاد، ويعمل في سويسرا مع مؤسسات دولية كبرى تريد ان تقود دول العالم المتخلفة الى سياسات تحرير السوق وليبراليته. زينة، المناضلة والمتفلسفة وحبيبة ثم زوجة عبد الناصر، يقتلها طموحها، ثم تفترسها ماديات الحياة عندما تحس بطعم المال والمرتب الشهري. تحاول ان تتعامل مع الحرية التي "منحها" بورقيبة لنساء تونس، فتلتبس عليها الأمور. تقول: "لقد أعطانا بورقيبة قيدا جديدا ظنناه انعتاقا فتورطنا. لم يعد بإمكاننا أن نعود الى الوراء. وإذا اردنا ان نتقدم تعذر علينا ذلك. اما البيت فسجن صغير وأما الشارع فسجن كبير. احدهما يعمره سجان بليد لا تنتهي طلباته. طفل صغير دللته امه ولم يستطع الفطام منها، والآخر يعمره السفلة بتحرشهم بالنساء وعنف لغتهم الجنسية الناضحة كبتا ونظراتهم التي تعري المرأة تعرية". 
ليست هذه مراجعة للرواية، بل بعض التأملات في بعض من جاء فيها، ومن دون هذه الملاحظة نكون هنا قد ظلمنا شكري المبخوت وصنيعته "الطلياني".

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الطلياني توترات تونسية على إيقاع عربي الطلياني توترات تونسية على إيقاع عربي



GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

GMT 21:30 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

الشرق الأوسط والموعد الصيني

GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 19:58 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

4 انتصارات في ختام دوري الدرجة الأولى

GMT 17:36 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 17:59 2019 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

منتزهات" الطائف" للتمتع بالطبيعة الخلابة والمساحات الخضراء

GMT 10:59 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

قائمة المرشحين لحصد جوائز "أوسكار" 2019 تخرج إلى النور

GMT 07:28 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رسالة مؤثرة من الأميرة هيا بنت الحسين إلى شقيقها الأميرعلي

GMT 00:52 2014 الجمعة ,05 أيلول / سبتمبر

اليابان تكشف النقاب عن الروبوت الأسرع في العالم
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday