الكاتبة آنا بيرنز تبحث عن المعنى في قلب اللامعقول بنكهة أيرلندية معاصرة
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

جسّدت أجواء الصراع الأهلي في بلفاست خلال سبعينات القرن الماضي

الكاتبة آنا بيرنز تبحث عن المعنى في قلب اللامعقول بنكهة أيرلندية معاصرة

 فلسطين اليوم -

 فلسطين اليوم - الكاتبة آنا بيرنز تبحث عن المعنى في قلب اللامعقول بنكهة أيرلندية معاصرة

الكاتبة آنا بيرنز
لندن ـ فلسطين اليوم

يعتبر التسجيل المرهف والشديد الحساسية لمناخ العيش في أجواء الصراع الأهلي الذي عاشته بلفاست خلال سبعينات القرن الماضي، من انقسام وقبائلية وتناحر طائفي، وتفشي إساءة استعمال مصادر القوة من قبل مختلف الأطراف في ظل غياب الاستقرار الأمني، هو الخيط الذهبي الذي يمتد ليربط بين الأعمال الثلاثة للروائية المنحدرة من آيرلندا الشمالية آنا بيرنز "بلا عظام – 2002" و"تشكيلات صغيرة – 2007" و"بائع الحليب"، التي تُوجت مؤخرًا بجائزة "بوكر" للرواية 2018.

ومع أن نصوص بيرنز تنزع إلى شخصنة الحدث والتركيز على المشاعر التي تعتمل داخل صدور الشخصيات في مواجهة وقائع عبثية يومية تبدو شكلًا وكأن لا تماس مباشرًا لها مع السياسة، إلا أن تقاطع تلك المشاعر تكتسب معنى عميقًا وحقيقيًا، وتنتظم ببراعة مذهلة كمنطق أعلى وخلفية كونية لمعاناة البشر عندما تستعاد في أجواء التاريخ السياسي للمدينة.

هذا البحث المضني عن المعنى في قلب العبثي واللامعقول يمنح أعمال آنا بيرنز نكهة آيرلندية لا تخفى، ويجعل منها تكريسًا معاصرًا لتقليد أدبي آيرلندي لم ينته بصموئيل بيكيت، ويكاد يكون فضاءً مغلقًا وملكية فكرية خاصة للكتاب المنحدرين من آخر الأراضي الأوروبية غربًا، فلا يجرؤ أدباء البقاع الأخرى على ارتياده. بيرنز التي مع ذلك لا ترغب في أن تُقرأ في سياق "بيكتي" محض أو أن تُعلب في خانة الأدب الآيرلندي الضيقة، ذهبت بسردية "بائع الحليب" إلى إسقاط الأسماء عن شخوص الرواية وشوارع مدينتهم لتنقلها إلى صعيد بشري كلي، حيث غياب بلفاست المغرقة في الرمادية وظلال الديستوبيا وكأنه حضور ساطع لكل مدينة تعيش على حافة الاختناق.

ولولا إشارات باهتة هنا وهناك في ثنايا السرد إلى ماضي بلفاست لكانت "بائع الحليب" عملًا أقرب إلى ديستوبيا مارغريت آتوود الشهيرة "قصة خادمة منزلية"، أي صورة أزمنة مظلمة تنتظر البشر على المنعطف التالي لحياتهم القصيرة البائسة.

في ذلك، قد يبدو خيار هيئة تحكيم "بوكر" بمنح "بائع الحليب" جائزتها لهذا العام انحيازًا سياسيًا صار متوقعًا إلى حد ما بوصفها صوتًا محسوبًا على المؤسسة الثقافية البريطانية التي يطيب لها الترويج لعمل يظهر الأوضاع الحالية المستقرة في آيرلندا الشمالية تحت حكم المملكة المتحدة وكأنها جنان مقارنة بمرحلة السبعينات الصعبة.

ومما يدفع باتجاه قراءة مثل تلك كون بيرنز تلمح في ثنايا سطور روايتها إلى أن الشخصية الشريرة الرئيسية التي تحمل لقب "بائع الحليب" هي قائد ميليشياوي في الجيش الجمهوري الآيرلندي، لكن وحتى لو كانت هذه القراءة مجرد تحميل ما لا يحتمل للنص، فإن الرواية تبدو بشكل أو بآخر كما بوح داخلي وسجل مشاعر لكاتبتها التي عاشت مراهقتها في تلك المرحلة بالفعل متجنبة السياسة والسياسيين كما تفعل الغالبية الصامتة في المجتمعات المقطعة الأوصال، متلهية بقراءة الروايات القديمة من قرن سابق لأنها لا تحتمل خفة الوجود التي تقدمها تجربة عيش القرن العشرين.

ولما انتقلت بيرنز إلى لندن لدراسة اللغة الروسية في إحدى جامعاتها أحست بانقلاب طريقة إحساسها بالعالم والحياة على نحو دفعها لأن تقرأ بتعمق في كتب السياسة والتاريخ المتعلقة بالمسألة الآيرلندية محاولة لفهم حالة اللامعقول التي عايشتها بنفسها في ذلك الصندوق المغلق المسمى بلفاست، التي يستحيل تفكيكها دون القبض على تقمصات السياسة عبر تقلبات الأيام. ولذا؛ فلا مندوحة من سماع صوت بيرنز نفسها يأتينا مغلفًا بشخصية بطلتها التي لا يعرف لها اسم وتصفها بالأخت الوسطى فحسب. الروائية التي تحدثت عن تجربتها في الكتابة وكأنها عملية انتظار طويل: - "ترتدي ثيابك، وتجلس بانتظار الشخصيات لحين أن تأتيك وتشرع بسرد حكاياتها لك" - لا بد أنها كانت تقرأ كوابيسها ومخاوفها الذاتية في حكايات تلك الشخصيات المتخيلة.

تسرد الكاتبة أحداث "بائع الحليب" على لسان تلك "الأخت الوسطى" التي تبلغ من العمر 18 عامًا ويلاحقها ميليشياوي بضعف عمرها محاولًا إغواءها، مستقويًا بالسلطة التي يتمتع بها في وقت لا أحد من قاطني بلفاست يتصل بالشرطة (البريطانية) إلا ربما لإيقاعها في كمين إطلاق النار عليها.

"بائع الحليب" وفق الرواية ما هو إلا اسم حركي لذلك الميليشياوي المرعب الذي تقول عنه الأخت الوسطى "لا أعرف من هو بائع الحليب هذا، وبالتأكيد هو ليس بائع الحليب في منطقتنا، ولا أي منطقة أخرى. بل ربما هو أصلًا ليس بائع حليب بالمرة". ومع ذلك؛ فإن هنالك ثمة بائع حليب في كل حي، يهدد كل "أخت وسطى" بأنه سيقتل رفيقها أو أخاها إن هي لم تستسلم لنزواته. فتعيش البطلة إحساسًا خانقًا بالعدمية والعجز في مواجهة المطاردة الدائمة من بائع الحليب، ولا سيما أن الإشاعات بدأت تتردد في مجتمعها المرتعد المغلق على ذاته بأنها على علاقة به وأنها محظيته الخاصة.

وهكذا يتداخل الشأن الخاص بالشأن العام وتتقاطع الأحداث لتجعل أيامها أشبه بلحظات طريدة وقعت في مصيدة وتنتظر مصيرها بلا حول ولا قوة، وهي فترة ستجد كثير من النساء العربيات المحاصرات داخل مجتمعات مغلقة ومنشطرة أنها تعيش أو عاشت مثلها على مستوى ما ربما في بيروت الحرب الأهلية أو جزائر العشرية السوداء أو الأزمة السورية المعاصرة.

لا تذكر بيرنز العنف مباشرة ولا تسرد أيًا من أحداثه، لكنها تستعرض بعيني الفتاة اليافعة تمثلاته مدققة بنتائج حضوره الطيفي المختبئ وراء انقسامات طبقية أو طائفية، وفي خضوع الأغلبية الذليل للزعامات المحلية والبطريركيات الجندرية والعمرية والدينية، وفي مناخ الخوف والبارانويا والالتباسات النفسية.

ويعيب البعض على الكاتبة بأن سرديتها الممتدة عبر رواياتها الثلاث تشير إلى أنها لا تزال رهينة العيش في مرحلة مؤسفة، لكنها انقضت من تاريخ آيرلندا الشمالية، بينما معظم الجيل الحالي من سكان بلفاست ولدوا بعدها، وصارت لهم هموم جديدة مختلفة تمامًا عن هموم جيل السبعينات. لكن تلك تمامًا مأساتها التي تحوك منها أقمشة خيالاتها؛ إذ إن البشر الذين يخضعون لتجربة العيش في ظل المجتمعات المخنوقة بالخوف والعجز والحصار الاجتماعي تغيرهم تلك التجربة بشكل جذري فلا هم يخرجون من خوفهم، ولا يخرج خوفهم منهم حتى وإن تغيرت مساراتهم لاحقًا أو رحلوا إلى مدن أقل اختناقًا.

نثر "بائع الحليب" ليس سهلًا ويتطلب جهدًا كبيرًا قبل أن يُلقي بمفاتيحه إلى القارئ. ومع ذلك؛ فإن صوتها الشاهق بتفرده في وصف حدود العبثي واللامعقول يختلط بطعم سخرية لاذع يجعل من الرحلة الصعبة أمرًا يمكن احتماله، أقله قبل بلوغ لحظة التخلي القاسية التي تنتهي إليها البطلة. هذا النثر الواثق المسبوك الذي لا يستسلم حتى لأي جمل قصيرة أو فواصل تمكن القارئ من استرداد الأنفاس فرض نفسه أمام تجارب روائية ثرية وأسماء لامعة ترشحت للجائزة، وانتزع لصاحبته التكريم كأول آيرلندية شمالية تفوز بها منذ إطلاقها في فضاء الثقافة الإنغلوفونية قبل نصف قرن من الزمان.

palestinetoday
palestinetoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكاتبة آنا بيرنز تبحث عن المعنى في قلب اللامعقول بنكهة أيرلندية معاصرة الكاتبة آنا بيرنز تبحث عن المعنى في قلب اللامعقول بنكهة أيرلندية معاصرة



GMT 13:29 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

كشف أثري كبير جنوب شرقي هرم الملك امنمحات الثاني في مصر

GMT 14:00 2018 السبت ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

علماء الآثار في الكويت يعلنون اكتشاف مذهل في موقع "بحرة 1"

GMT 04:36 2018 السبت ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

السودانيون يطالبون متحف الفاتيكان بإعادة مومياء أميرتهم

GMT 16:44 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتشاف مقبرة جماعية قديمة لحضارة منقرضة في بوليفيا

GMT 01:43 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة زياد أبوعبسي أحد روَّاد المسرح اللبناني عن 62 عامًا
 فلسطين اليوم -

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 11:15 2020 الإثنين ,20 إبريل / نيسان

بريشة : علي خليل

GMT 10:21 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 10:16 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 13:30 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

تقديم عطر أرماني كود النسائي الأفضل لفصل الشتاء

GMT 04:23 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ريتا اور تتألق في إطلالة رائعة تجذب الأنظار

GMT 18:37 2017 السبت ,03 حزيران / يونيو

الشرطة تحبط محاولة قتل في إحدى مستشفيات نابلس

GMT 14:51 2019 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر

GMT 21:52 2017 الثلاثاء ,22 آب / أغسطس

كيف تحصلين على مكياج مثالي لبشرتك
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday