عـن ثـورات الـعـبـيـد
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

عـن ثـورات الـعـبـيـد

 فلسطين اليوم -

عـن ثـورات الـعـبـيـد

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل نظاماً أسوأ من العبودية، هذا النظام القبيح موغل في القِدم، وقد نشأ مبكرا جدا، منذ بدايات تشكل المجتمعات والدول، مارسته كل الشعوب بحق بعضها، حيث كانت الجيوش الغازية تستبيح جاراتها، وتسترق رجالها، وتسبي نساءها، وحتى داخل الشعب الواحد، حيث كان القوي يستعبد الضعيف.. بل إن نظام الدولة نشأ أساسا بهدف حماية وشرعنة العبودية.

في العبودية، لا كرامة للعبد، لا حقوق، ولا حياة خاصة، ولا حتى اعتراف بإنسانيته، يتحول إلى آلة إنتاج، وخدمة، وإذا أعرب عن تظلمه بأي شكل، سيلاقي أشد العذاب.. كان العبيد يعملون منذ الصباح الباكر، وحتى بعد مغيب الشمس، إلى أن تنهك أجسادهم تحت السياط والشمس اللافحة، وفي أسوأ الظروف، وأكثرها قسوة.. كان يتم الاتجار بهم، وعرضهم في أسواق خاصة، كان يتم تفريق العائلات عن بعضها، وكانت النساء يُغتصبن أمام أهاليهن.. والأطفال يُجبرون على العمل منذ سن السادسة.

كان العبيد سابقا من كل الأجناس والألوان، ولكن الأوروبيين في الحقبة الأخيرة جعلوا العبودية مقتصرة على السود، حيث صارت إفريقيا منبع تجارة العبيد، ووجد ملاك الأراضي في العالم الجديد، والتجار والقراصنة والسماسرة في هذه القارة كنزاً لا ينضب، كانوا يحسبون العبيد ضمن بقية البضائع والمنتجات المنهوبة من إفريقيا.. يكدسونهم في سفنهم الرهيبة كما لو أنهم أكياس حبوب، أو براميل نبيذ.

حتى نهاية القرن الثامن عشر، كان عدد العبيد الذين تم جلبهم من إفريقيا إلى أميركا الجنوبية نحو 8 ملايين عبد، ومليونين آخرين تم سوقهم إلى أوروبا، وفي القرن التاسع عشر تكثفت تجارة العبيد بشكل محموم، وصارت الولايات المتحدة المركز الجديد لهذه التجارة، فكان ينقل إليها نحو مائة ألف عبد سنويا.

بعد مقتل نحو خمسين مليون عبد (أثناء نقلهم، أو بسبب ظروف عملهم القاسية)، كانت بريطانيا أول دولة تلغي العبودية، وقد أصدرت قراراً يحرم الاتجار في العبيد سنة (1807)، لكن ذلك القرار لم يكن صحوة أخلاقية من الرجل الأبيض، بل بسبب التغييرات الاقتصادية التي أحدثتها ثورة هاييتي (1791 - 1804)، تلك الجزيرة كانت تمثل نصف إمدادات التجارة العالمية من السكر، الذي كان أهم سلعة حينها، فلما خسرها البيض تحول مسار تجارة العبيد إلى الولايات المتحدة، فلم ترغب بريطانيا في أن يستفيد خصومها ومنافسوها (أميركا، فرنسا، البرتغال، إسبانيا) من هذه التجارة، وأرادت حرمانهم من مصدر إنتاجي مهم، ومن ناحية ثانية، بدأت تتحول من فكرة جلب العبيد إليها، أو إلى مستعمراتها، إلى فكرة استعباد الشعوب في أوطانهم، ونهب ثرواتها على أيديهم، أي فكرة الاستعمار الكولونيالي.

أما الولايات المتحدة، فقد ألغت العبودية في بداية ستينيات القرن التاسع عشر، وأيضا لم تكن الدوافع أخلاقية ولا إنسانية؛ بل بسبب تحولات أدوات ووسائل الإنتاج في الولايات الشمالية، وتغير بنيتها الاقتصادية، ورغبة منها في ضم الولايات الجنوبية، التي كانت تعتمد في اقتصادها على العبيد، والاستفادة من العبيد أنفسهم في الحرب الأهلية ضد أعدائهم الجنوبيين.

المهم، أن العبودية انتهت.. ولكن أحد أهم أسباب انتهائها تمثل في ثورة العبيد في هاييتي.. لم تكن تلك أول ثورة عبيد في التاريخ، فقد سبقتها ثورات كثيرة، أشهرها ثورة «سبارتاكيوس» في القرن الأول الميلادي، وثورة الزنج في العراق في القرن التاسع الميلادي (قد نتناولها في مقال قادم)..

في هاييتي اكتشفت حديثا مئات المقابر الجماعية، لرجال ونساء من العبيد لم يبلغوا الثلاثين، هرموا وماتوا من شدة التعذيب.. ما يدل على سوء أوضاعهم آنذاك.. ما حدث حينها، انتصار الثورة الفرنسية (1789)، والتي وصلت أصداء شعاراتها المنادية بالحرية والمساواة إلى جزر الكاريبي.. كان السود آنذاك يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان البرازيل وفنزويلا وجزر الكاريبي، وكان البيض أقلية، لكنها مسيطرة بالحديد والنار.. كانت هاييتي تستقبل 45 ألف عبد سنويا.

بعد سنوات قليلة من قمع ثورة القائد «أمادور»، بدأت الجزيرة تغلي، وأخذ العبيد يفرون من مزارعهم ويلجؤون إلى الجبال، وينظمون صفوفهم، ويغيرون على مزارع البيض، وفي يوم 22 آب 1791، في تلك الليلة العاصفة، وعند حلول الظلام، تجمعت أفواج غفيرة من العبيد عند غابة التمساح، للاستماع إلى فواكيما، كاهنة الفودو، وهي تستدعي آلهة الأسلاف الأفارقة.. وقفت وسط الجموع، وأخذت تخطب بهم، وتحثهم على الثورة، قائلة: «الرب الذي خلق الأرض، والشمس التي تعطينا النور، الرب الذي يمسك البحر، ويجعل الرعد يهدر.. أيها الرب السميع، يا من تختبئ خلف الغيوم، وتشاهدنا من مكانك العلي، أنت ترى كل ما نعانيه بسبب البيض، ربُّ الرجل الأبيض يطلب منه أن يرتكب الجرائم بحقنا، لكن الرب الذي بداخلنا يريد منا فعل الخير، إلهنا الطيب والعادل يأمرنا أن نثأر لمظالمنا، وأن نثور على جلادينا، وهو الذي سيوجه سواعدنا، ويأخذنا إلى النصر، هو من سيساعدنا، علينا جميعا أن نتخلص من صورة رب الرجل الأبيض عديم الرحمة، أنصتوا لصوت الحرية الذي يصرخ في قلوبنا جميعا».

منذ تلك الليلة، تصاعدت الثورة بشكل عنيف، وأخذت تنتشر في عموم الجزيرة، استمر الكفاح اثنتي عشرة سنة، قادها سائق عربة يدعى فرانسواتوسا، وآخر اسمه دوتي بيكمان، هبت فرنسا لنجدة مستعمرتها، لكن الثوار سحقوا جيوشها، وألحقوا بنابليون هزيمته العسكرية الأولى، وهرب عشرة آلاف من البيض من الجزيرة، وفي العام 1804، ولدت أول جمهورية للسود من رماد الثورة، ليتردد صدى كلمة الحرية في جميع مزارع العبيد في الأميركتين، وفي كل جزر الكاريبي، ومن ثم في كافة أرجاء العالم. بعدها بثلاث سنوات ألغت بريطانيا تجارة العبيد. وبعدها بنصف قرن ألغتها الولايات المتحدة، لكنها احتاجت قرنا كاملا بعد ذلك حتى تخلصت من نظام التمييز العنصري.

مع أن العبودية الغيت في كل العالم بشكل رسمي، إلا أن ذيولها، وثقافتها، وإرثها الثقيل ما زال قائما، وبأشكال جديدة.
لا أعرف كم ستحتاج البشرية حتى تتخلص من كل أدرانها، وتنتصر لإنسانيتها، وتبني عالما دون حروب، ودون عنصرية، ودون استعباد.

قد يهمك أيضا :  

خفايا اغتيال أبو جهاد

  من هم «إخوان الصفا»؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عـن ثـورات الـعـبـيـد عـن ثـورات الـعـبـيـد



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 04:50 2024 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

"كورونا" يضرب بمتحوره الجديد وزيادة كبيرة في الإصابات

GMT 01:15 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

ثلاثة فنانيين قدموا الأخرس في السينما المصرية

GMT 00:08 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

صناع فيلم " خلاويص" يهنئون الفنانة أيتن عامر بعيد ميلاد

GMT 01:57 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

تحذيرات من نشوب حرب جديدة تقضي على وحدة العراق

GMT 07:52 2016 الثلاثاء ,27 أيلول / سبتمبر

"فورد" تطلق "إكسبلورر XLT" للقيادة على الطرق الوعرة

GMT 00:32 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

روسيا تنشر مئات المدرعات والدبابات في إستونيا

GMT 08:03 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

لن يصلك شيء على طبق من فضة هذا الشهر

GMT 13:34 2018 الأربعاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

تصميمات مذهلة لحمامات أنيقة لمحبي التجديد والتميز

GMT 10:44 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح هامة للقيادة بأمان في الخريف

GMT 11:21 2018 الجمعة ,14 أيلول / سبتمبر

المشروم يحد من خطر الإصابة بسرطان عنق الرحم
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday