التجربة الصينية
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

التجربة الصينية

 فلسطين اليوم -

التجربة الصينية

د. عاطف ابو سيف
بقلم : د. عاطف ابو سيف

ارتباط منشأ فيروس كورونا بالصين، وفي مفارقة غريبة فإن البلاد التي كان يعتقد أن المرض سيفتك بها باتت أكثر البلدان نجاعة في محاربته، بل صارت التجربة الصينية مثالاً يحتذى به في التعامل مع المرض سريع الانتشار. والصين التي عانت ما عانته من الفيروس المتجدد الذي لم تنجح الحضارة الإنسانية في اكتشاف علاج أو لقاح له، باتت تقدم الخبرة والمشورة للبلدان الأخرى في مقاومة انتشاره، وصار يمكن تعلم الكثير من الدروس من تلك الخبرات، بل يصعب الحديث عن سبل مواجهته دون الإشارة للصين وطريقة احتواء المرض ومنع تمدده، وعلاج الكثير من المصابين. ورغم أن الفيروس لم يختف بعد من هناك إلا أن التجربة الصينية في منع ترك المرض يفتك بالبلاد ظلت وستظل محط إعجاب وتقدير.

ولصيق بهذا كيف كان العالم يتعاطى في بداية ظهور المرض مع المواطنين من أصول صينية، حيث كان يتم النظر إليهم كأنهم كلهم مصابون بالمرض، وحتى وصل الأمر إلى حد التصرفات العنصرية الكريهة بحق الصينيين في الكثير من البلاد، وانتشرت على مواقع التواصل الكثير من الفيديوهات التي تصور الأمر حتى بصورة مضحكة، وكان الهرب أو التجنب أو الغضب من قرب شخص صيني مادة للتندر والضحك، رغم ما في ذلك من استفزاز وانتهاك صارخ للقيم والمثل العليا التي تنظم علاقات البشر.

بل وصل الأمر إلى حد التمييز العنصري في إشارات السياسة وصناع الرأي سواء. وبشكل عام فإن تلك الفترة القصيرة لم تطل كثيراً أن تشافي الصين من المرض، ومشيها بخطوات واثقة للتغلب عليه قلب الآية، فلم تعد الإشارة للمواطن الصيني بوصفه مصدر انتشار المرض، وصار أطباء الصين وطواقمها الطبية محط اهتمام وجذب الكثير من الدول.

لم يقتصر الأمر على التجربة الصينية بل امتد ليشمل الروح والعزيمة الصينية التي تغلبت على المرض. ولم يعد المواطن الصيني يثير الخوف والهلع ويتطلب الأمر عدم الاحتكاك به وربما الهرب من أمامه في مشاهد درامية، بل بات صورة الطبيب الصيني محط إعجاب وتقدير واحترام خاصة في ظل عجز القارة العجوز أوروبا عن وقف انتهاك المرض لجسدها، وعجز البشرية في وضع حد له وتركه يتواصل تمدده وزحفه في كل الاتجاهات، خاصة في ظل الحديث عن مقدرته على التحول والتطور.

هذا الحديث يقود إلى جوهر المعضلة الراسخة في الوعي الإنساني. الإنسان نزّاع إلى التنميط ورسم الصور والتخيلات المسبقة عن الأشياء. وربما يصعب قراءة الثقافات العالمية دون الإشارة إلى هذا النزوع إلى التنميط. فكل ثقافة لديها تصوراتها وصورها النمطية عن الثقافات والشعوب الأخرى، خاصة تلك الشعوب القريبة منها أو تربطها بها أحداث تاريخية من باب الحروب أو الصراعات والتنافس.

وتاريخنا يحفل بمثل هذه التصورات والتنميطات. منها مثلاً صورة الغرب عن الشرق المتعلقة بسحر الشرق وما يتم ادعاؤه عن الشعوذة والإثارة الحسية، والآن الصور النمطية عن الإرهاب وقمع المرأة، وهي صور ناقشها إدوارد سعيد وناقش انعكاساتها في الأدب والفنون الأوروبية في «الاستشراق». والأمر ذاته عندنا نحن العرب عن الغرب وعن أوروبا تحديداً منها ما قد يقوله البعض أنها مجتمعات غير متدينة، رغم أن التدين في بعضها أعلى منه لدى بعض بلداننا والانحلال الأخلاقي وما يعتقد حول تصرفات المرأة، وهي تصورات غير دقيقة وتعكس نمطاً وفهماً غير دقيق، لكنها جزء من بناء الهوية المضادة والافتراق عن الخصم التاريخي.

تخيلوا مثلاً أن العرب أيام الجاهلية كانت تعتبر أن السيف المصنوع في الهند أجود السيوف رغم ان العرب عرفت بجودة سيوفها وبتزيينه بالذهب مثلاً، وكان عنتر يتباهى بسيفه الهندواني بل إنهم، أي العرب، أعطوا السيف اسم «المهند»، وصحيح أن السيف الهندي في فترات لاحقة من التاريخ أيام المغول وبعد ذلك كان يتمتع بسمعة جيدة، لكن المؤكد أن الصورة النمطية حتى لدى شاعر مثل عنترة قامت بدور كبير في تلك المخيلة.

مثلاً سور الصين العظيم لا يسمى في الصين سوراً ولا ذكر للعظيم في اسمه بل الجدار الطويل. وثمة أساطير غير صحيحة مرتبطة به مثلاً أنه يُرى من الفضاء وهذا غير صحيح، وهو مجرد إشاعة أطلقها أحد رواد الفضاء. كما أنه لا يمكن غزوه وحمى الممالك الصينية المتعاقبة من الغزو الخارجي، وهذا أيضاً غير صحيح وتم غزوه وعبوره أكثر من مرة.

ثمة مفارقتان مرتبطتان بالصين أيضاً. حين كنت صغيراً وربما يتذكر الكثيرون ذلك كانت الإشارة لأواني الشاي بأنها صينية، يعني أنها خزف فاخر، وبالتالي يتم التباهي بها والتدليل على قيمتها، مثل أن تقول إن الثلاجة ألمانية اليوم. بعد ذلك وفي عصر العولمة باتت الإشارة للشيء بأنه صيني تعني أنه غير أصلي ومقلد. لاحظوا أن ثمة ماركات في الصين أكثر أصالة من كبريات الماركات الأوروبية وأغلى منها ثمناً، ولكنها العولمة التي كانت الصين منتجها الأول هي من جعلت من المصانع الصينية تحت طب التاجر، وكما يقول المثل «على قد لحافك مد رجليك».

ربما ستنتهي أزمة كورونا، ولندعو الله أن يكون هذا قريباً، وربما تؤثر قليلاً على تصوراتنا وتنميطنا، لكن أيضاً قد يعود كل شيء إلى سابق عهده ويتم نسيان الكثير من الدروس التي تم تعلمها مع التجربة، خاصة فيما يتعلق بعدم التعميم والانتظار، فالتجربة الصينية في التعامل مع الفيروس، صحيح أنها لم تقضِ عليه لكنها منعته من القضاء على الصين برمتها. وفيما تصارع البشرية من أجل البقاء يقوم المخيال الخاص بكل ثقافة بعمل تصوراته وتنميطاته الخاصة حول كل شيء. هذه هي الحياة.
ومن المفارقة مثلاً كيف ترتبط الصين في الوعي العام بجملة من التصورات والصور النمطية التي لا علاقة لكثير منها بالواقع.

قد يهمك أيضا : 

  أبو سيف يؤكد الاحتفال ببيت لحم عاصمة الثقافة العربية بشهر نيسان المقبل

أيضاً المجتمع الدولي يتغير

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التجربة الصينية التجربة الصينية



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 00:06 2018 الثلاثاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير داخلية بوينس آيرس يستقيل من منصبه

GMT 01:24 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

النجم جورج وسوف يحيي حفلة غنائية في فرنسا

GMT 21:04 2017 الأربعاء ,05 تموز / يوليو

نجم الفريق تامر صيام يحسم موقفه من هلال القدس

GMT 05:49 2017 الخميس ,12 كانون الثاني / يناير

هنا الزاهد نؤكد خوض تجربة المسلسل الكارتوني لأول مرة

GMT 07:21 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

6 أخطاء شائعة يجب تجنبها عند إنشاء "كملة سر" صعبة

GMT 10:51 2019 الأحد ,07 إبريل / نيسان

هنري جاك يواصل إبداعه في مجموعة Les Classiques de HJ

GMT 00:18 2018 الجمعة ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

طريقة تحضير مشروب التمر هندي بالكركديه

GMT 06:07 2018 الجمعة ,14 أيلول / سبتمبر

الصبار يحميك من السرطان ويحافظ على صحة بشرتك

GMT 06:41 2018 الجمعة ,02 آذار/ مارس

عمليات التجميل ترتفع بنسبة 200 % بين النساء
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday