خلط الدين والسياسة والجدل المُستمر
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

خلط الدين والسياسة... والجدل المُستمر

 فلسطين اليوم -

خلط الدين والسياسة والجدل المُستمر

بقلم - خالد الحروب

أي تأمل في مآلات تجارب عدة خلطت الدين مع السياسة في المنطقة العربية والإسلامية خلال القرن الماضي على أقل تقدير، يؤدي إلى نتيجة واحدة: تشويه الدين وتدمير السياسة. يحدث ويتواصل حدوث هذا بسبب التوظيف السياسي للدين. هذه النتيجة ليست محصورة في العصر الحديث، بل مكرورة تاريخياً في شكل مُذهل، ولا هي وقف على التاريخ الإسلامي، بل كونية التمثل وتتجسد في كل الثقافات والأديان والأزمان. منذ عهود أباطرة الرومان وتلاعبهم بالمسيحية وتدوير السياسة وولاءات الشعوب وفق ما يرتأيه هذا الملك أو ذلك الإمبرطور من مصالح سياسية مروراً بكل تواريخ البشر والطوائف، وصولاً إلى الإسلاموية الراهنة ممثلة بجماعات أو تنظيمات أو دول والقصة ذاتها تكرر بلا توقف، والنتيجة ذاتها تُعاد من دون تغيير كثير في جوهر نهاياتها.

معنى ذلك أن الجدل الحقيقي في هذه المسألة يجب أن يتمركز في قراءة وتأمل التجربة التاريخية والشواهد العملية لتوظيف الدين في السياسة، وليس في السجال النظري والفكري التجريدي كما تشهده مطارحات وأدبيات الإسلامويين حول «نجاعة» و «ضرورة» إدارة السياسة بالدين أو ما هو قريب من ذلك. في أي نقاش راهن ثمة من ينبري للهجوم بكل نضالية وشراسة على فكرة فصل الدين عن السياسة واسترذالها وإعادة تدوير الفكرة المتهافتة التي تحصر إمكانية الفصل هذه في التجربة الغربية فقط، وبأن التجربة الإسلامية مُختلفة وأن الفصل غير ممكن، وتُلحق بذلك كل المسوغات والتبريرات. ينجرف الحديث إلى طوباوية لا علاقة لها بالواقع تحلق في علياء المقارنات النظرية بين الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والفروقات بينها كلها وبين الإسلام، بغية توكيد «استثنائية» و «جوهرانية» علاقة الدين بالسياسة في الإسلام والسياقات الإسلامية. ولا تنال التجربة العملية المعاصرة والراهنة (فضلاً عن تجارب الماضي والتاريخ) والتي تفرض نفسها على تفاصيل المشهد السياسي الاهتمام الحقيقي في السجال.

العشرات من التجارب السياسية الحالية، والتي يُمكن إدراجها تحت مسمى «الإسلام السياسي» تشمل تنظيمات سياسية حركية بتنويعات لا حصر لها، ودولاً وكيانات حديثة نشأت على أسس تحالفية مع قوى دينية منحتها الشرعية، بل وأيضاً قوى عُظمى انتبهت إلى فاعلية «توظيف الدين في السياسة»، كما هي حال الولايات المتحدة والغرب في افتعال «الجهاد الإسلامي» وتأسيسه ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وليس انتهاء بـ «داعش».

هذه التجارب والشواهد التي تفيض عن الحاجة للأستدلال تُهمش في السجال المتواصل حول «الدين والسياسة» وتصبح كأنها ليست واقعاً ملحاً يفترض التأمل فيه والاستفادة منه. عوض ذلك يُدفع النقاش في «الجدل النظري» ومن خلال بهلوانيات لغوية وبلاغية، إلى سؤال مُفتعل حول «صلاحية الإسلام للسياسة» يهدف إلى الإحراج أكثر مما يهدف إلى البحث عن إجابة. بعيداً من تفاهة أسلوب «إحراج الخصم» عبر إلقاء هذا السؤال المُلتهب المُستقوي أصلاً بمناخ مأزوم تنعدم فيه حرية التعبير، فإن طرح السؤال ذاته بهذه الفجاجة يعكس ضحالة معرفية.

فمن ناحية أولى ما هو بالضبط الإسلام الذي يحيل عليه السؤال، وما هي السياسة بالضبط؟ الإسلام الوارد في التساؤل هنا لا يمكن فصله عن فهم السائل، بمعنى أن «الإخواني» سوف يكون الإسلام بالنسبة له هو «الإسلام الإخواني»، أو كما يفهمه «الإخوان المسلمون»، وعلى الشاكلة ذاتها سيكون هناك «الإسلام السلفي»، و«الإسلام التحريري»، و«الإسلام القاعدي أو الداعشي»، و«الإسلام الدولتي»، الذي تتبناه هذه الدولة أو تلك. وهناك أيضاً «الإسلام الشيعي الثوري»، و«الإسلام الشيعي غير الثوري»، و«الإسلام الحوثي»، إضافة إلى نسبيات أوسع حول «الإسلام العربي» و«الإسلام الآسيوي» و«الإسلام الأفريقي»، وقائمة لا تنتهي من تعريفات منسوبة إلى كل فئة أو جماعة أو دولة تقول أنها هي وحدها التي تعرف وتفهم وتقدم «المعنى الصحيح» للإسلام. ويتناسل من كل تعريف من تلك التعريفات عشرات التعريفات التأويلية والانشقاقية التي يزعم كل منها بأنه يقف على «جوهر الإسلام» وبناء على ذلك الجوهر يبني علاقة مُفترضة مع السياسة ويموضع الدين إزاءها، وبالتالي ينافح بعماء أيديولوجي عن تعريف أحادي خلافي ليس إلا، ويريد لذلك التعريف ولموقع السياسة منه أن يكون ويصير «الدين» ذاته.

معضلة تعدد الفهم والتعريف للدين، مرة أخرى، ليست حصرية بالعرب والمسلمين بل طاولت كل الأديان بلا استثــناء، وكانت في محل ما أحد الآليات الدافعة إلى تحرير السياسـة من الدين والدين من السياسة في أكثر من سياق، وأهمها الأوروبي. فقد تبدى لكثر من المفكرين أن السمة السائلة والطيفية لتعريف الدين وتأويله حيال السياسة وفق الطرف أو الجماعة أو الفئة أو الدولة، تعني شيئاً واحداً فقط وهو شرعنة الفعل السياسي دينياً واستقواء طرف سياسي معين بالدين ضد أطراف أخرى. وعلى هذا الإيقاع قامت الحروب الدينية الطاحنة داخل كل حضارة أو ثقافة، وكانت أكثر دموية في الكثير من الأحيان من الحروب ضد الحضارات والأديان الأخرى. وهذه الحقيقة الواقعية والتاريخية في زمن البشر، أي دموية الحروب الداخلية في إطار الحضارة أو الدين أو الثقافة الواحدة، هي أهم ما ينقض أطروحة صدام الحضارات السيئة الذكر التي روجها بخفة المفكر الأميركي الراحل صاموئيل هانتنغتون. المهم هنا هو الإشارة إلى تكاثر الشواهد والتجارب التي تؤكد هذا الاستنتاج وذلك كله دفع إلى الخلاصات النهائية والصعبة التي رأت أن سياسة البشر تقودها المصالح والمساومات والتوافقات بعيداً من الدين الذي سيظل ويبقى مكوناً أساسياً من مكونات البشر الثقافية والروحية وملجأهم الأهم للخلاص الفردي وتقديم إجابات وجودية.

لكن الشيء بالغ الأهمية والأثر في الثقافات الدينيةليس الماضي كما حدث والتجربة كما وقعت، بل هو المخيال الجمعي والتاريخ المُتخيل لما حدث. فدائماً ما يُعاد صــــوغ الـــتاريخ بخاصة الديني - السياسي منه في حبكات معاصرة وحديثة تستهدف خدمة أهداف ومشروعات سيـــاسية، أو فهم محدد ومعين للدين. وتبعاً لهذه النقطة يمكن القول أن أحد أهم «إنجازات» (=أوهام) الإسلاموية الحــــديثة تمثل في تسويق «تاريخ إسلامي مُتخيل» عن ماضي العرب والمسلمين يتصف بالتسطيحية الهائلة وتخــليــــق آلية رياضية مباشرة بين «سبب ونتيجة» تقولان أن «تدين المجتمعات وأسلمتها يعنيان النصر والتقدم والازدهار»، ونشر ذلك كأحد مكونات الثقافة العامة.

لقد تسلل هذا التسطيح الفادح من الثقافة الحزبية الحركية إلى المناهج المدرسية ثم أصبح «مسلّمة» اجتماعية. ثم طُبقت هذه «المسلّمة» بانتقائية أفدح على مراحل وحالات من التاريخ الإسلامي للتدليل على صحتها، لكنها أغفلت الشطر الأعرض والزمن الأوسع والأكثف والأكثر غناء وخلافية من التواريخ العربية والإسلامية التي كانت الغلبة فيها للسياسة على حساب الدين، وبلغ الازدهار و «النصر» فيها ذرى عالية في وقت كان تدين الساسة والحكام كما تدين العامة أيضاً في أدنى نقاطه. باختصار، لم يكن خلفاء بني أمية وبني العباس سواء في المشرق أو الأندلس، ثم سلاطين بني عثمان، وملوك الصفويين في إيران، أو سلاطين المغول في الهند، وغيرهم كثر، عباداً وزهاداً يخضعون سياستهم وغزواتهم وإداراتهم وتحالفاتهم ومؤامرات بعضهم ضد بعض لتعاليم الدين وإرشاداته. تواريخ كل هؤلاء تشير إلى أن الدين كان يُوظف لتوفير الشرعية السياسية للحكم، وكان علماء الدين يحومون في الأعم الغالب حول السلطان و «شوكة الحكم» لتوفير المسوغات والمبررات لاستمرار بقاء هذا الحاكم أو تلك السلالة في الحكم.

وكان هذا السلوك هو السائد في طول جغرافية العالم العربي والإسلامي وعرضها، على رغم تعدد الدول والإمارات والسلطنات التي تمتع كل منها بشرعية دينية مفصلة على مقاسه وكانت نتاج خلط الدين بالسياسة الذي هدفه الأول والأخير كان «إخضاع العامة» ودحر الخصوم. تطورت أنماط الحكم وأساليبه في تاريخ البشر في القرون الأخيرة، وبهتت ثم زالت الحدود والفواصل بين «أهل الشوكة» و «العامة والدهماء»، ولم تعد هناك حاجة إلى شرعية دينية فوقية يتستر بها «أهل الشوكة» لتسويغ تحكمهم بـ «العامة». تطورت نظريات السياسة والحكم وإرادة وإدارة الشعب والعقد الاجتماعي والمشاركة السياسية والديموقراطية التي تقوم في مجملها على إنتاج انواع جديدة من الشرعيات السياسية والشعبية والانتخابية التي تعبر عن إرادة المجموع العام، وتُبقي تلك الإرادة الأداة الأولى والأهم في مراقبة السياسة والسياسيين. الدفاع عن خلط الدين بالسياسة يعني استدعاء زمن القرون الوسطى، ومنح السياسة والسياسيين كل الفرص لتوظيف الدين لمصالحهم بعيداً من المحاسبة والمراقبة والشفافية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خلط الدين والسياسة والجدل المُستمر خلط الدين والسياسة والجدل المُستمر



GMT 23:29 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الحاجة كريستينا ... وحرب «العم» بلفور

GMT 00:51 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الوزير اليهودي المُنصف الذي عارض وعد بلفور

GMT 07:27 2017 الثلاثاء ,09 أيار / مايو

الحداثة والعلم من منظور الصهيونية في فلسطين

GMT 05:27 2017 الأحد ,09 إبريل / نيسان

انتفاء المثقف الخارق...!

GMT 05:19 2017 الأحد ,09 إبريل / نيسان

انتفاء المثقف الخارق...!

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 15:40 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أحدث سعيدة خلال هذا الشهر

GMT 10:57 2019 الإثنين ,11 شباط / فبراير

تعرّف على "Corolla" الجديدة كليا من "تويوتا"

GMT 21:54 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

"Urban EV Concept" أول سيارة هوندا كهربائية

GMT 05:12 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

بريطانيا تحول منزلًا مهجورًا إلى مكان لحماية التاريخ

GMT 11:37 2019 الأحد ,21 إبريل / نيسان

باحثون يكتشفون عظمة غامضة في جسم الإنسان

GMT 07:56 2019 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

مهلا يا رونار

GMT 10:49 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

ديكورات ريسبشن رائعة و جذابة تبهر ضيوفك

GMT 11:25 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

أحمد الشناوي يكشف سبب انتقادات حارس الأهلي له

GMT 09:28 2017 الثلاثاء ,26 أيلول / سبتمبر

كيف تكتشف مافي نفوس الأخرين وأنت صامت؟

GMT 07:00 2017 الثلاثاء ,19 أيلول / سبتمبر

بذخ أسطوري في أغلى حفلة زفاف لابن ملياردير أرمني

GMT 21:01 2016 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تشيلسي يحصد جائزتَي أفضل مدرب ولاعب في "البريميرليغ"
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday