الحاجة كريستينا  وحرب «العم» بلفور
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

الحاجة كريستينا ... وحرب «العم» بلفور

 فلسطين اليوم -

الحاجة كريستينا  وحرب «العم» بلفور

بقلم : خالد الحروب

تتهادى الفتاة العشرينية الجميلة مع حقيبة سفر بنية متوسطة الحجم في طريق رملية يتفرع عن محطة سكة حديد غزة في أحد صباحات شباط 1958، سائرة خلف عامل المحطة الأربعيني الشهم الذي أدهشه وصول هذه الفتاة وحدها من مصر، والذي سوف تكتشف لاحقاً بأنه العم منصور، أحد معارف عائلتها في يافا قبل حرب النكبة واللجوء. رأسها تحتله أفكار مشوشة وأسئلة لا نهاية لها. ها هي تعود إلى «الوطن» بعد أحد عشر عاماً من مغادرتها له كطفلة لم تتجاوز عامها الحادي عشر. أذهلتها وأخافتها صحراء سيناء الرملية التي لهث قطار القاهرة طويلاً كي يكتشف نهاياتها أو على الأقل يفكك بعضاً من غموضها.

وصل القطار مُنهَكاً إلى غزة، ومُنهِكاً من حملهم إليها، ومعهم كريستينا التي تفاقمت في داخلها الأسئلة وغموض ما تحمله لها الأيام. حياتها التي بدأت عادية ووئيدة ومليئة بالحب في يافا تبعثرت على أيدي قدر ماجن شاء أن يتسبب لها بورم خبيث في إبهامها هدد حياتها وما كان له حل إلا البتر، ولا مكان كان يُضمن فيه البتر إلا بريطانيا ومستشفياتها. كان ذلك قبل حرب 1948 بأسابيع قليلة حين وافق أبوها عوني السعيد على إرسالها مع صديقه المقرب والمخلص جورج إلى لندن. جورج، خريج أكسفورد في الدراسات الشرقية والمقيم في فلسطين، وعد عوني بأن ابنته ستكون بخير وأن المسألة كلها لا تتعدى عدة أسابيع وتكون «فضة» قد عادت إلى يافا.

رغم تأكيداته وجهده النبيل فإن جورج الذي وصل لندن مع فضة كان يُخفي قلقاً متزايداً في داخله جراء تسارع الأحداث السياسية. كانت تصله أخبار لا تُنشر عن طريق قريبه عضو البرلمان، وكان شبح وعد بلفور يتطاول ويتجسد على الأرض كما لم يتجسد طيلة الثلاثين سنة التي تلت يوم إصداره المشؤوم. الـ «بضعة أسابيع» السريعة التي كان من المُفترض أن تقضيها فضة في لندن وتتعالج فيها ثم تعود إلى حضن أبيها وأمها استطالت إلى أحد عشر عاماً على إيقاع تنفيذ الجريمة البلفورية على الأرض. بقيت «فضة» الجريحة والمبتورة الإبهام والمبتورة عن أهلها في لندن، في كنف جورج الذي عاملها كابنته وسماها كريستينا، الاسم الذي عُرفت به في المدرسة وفي حياها الجديدة.

أما هناك في الوطن الذي سُلب فقد كان البتر أشد وأقسى. بُترت عائلة «فضة» وهُجرت مع مئات الألوف شمالاً أو جنوباً، وانتهت عائلات وأقارب العائلة في مخيمات نصبت على عجل في شمال قطاع غزة. وأثناء حرب البتر الجماعية تلك وبعيدها قضى الأم والأب. «فضة» كانت ما زالت تحلم بالعودة إلى والديها حتى لو لم تكن تلك العودة إلى بيت يافا الدافئ. عرفت من جورج أن أهل يافا طُردوا منها وأن والديها وعائلتها قد استقرت على الأغلب في غزة. لم تكن تعلم أن البتر كان أعمق كثيراً مما تخيلته. كان عليها أن تعيش حلم الارتماء في أحضان أمها وأبيها أحد عشر عاماً أخرى، قبل أن تبتلع المرارة الخانقة لحظة وصولها مع العم منصور إلى المخيم بعد أن لفظها ذلك القطار الأهوج في محطة سكة حديد غزة.

آنذاك عرفت إن كل ماضيها الطفولي الجميل دمرته بريطانيا التي ينتمي إليها جورج النبيل، والذي اضطرت بعد وفاته مباشرة أن تغادر بيته الذي كان يضيق عليها بسبب نفور بعض أفراد عائلة جورج لها وعدم استساغتهم لبقائها بينهم. منذ لحظة ابتلاع المرارة في المخيم واكتشاف عمق البتر الذي حصل في حياتها صارت «كريستينا» ابنة المخيم. وفيه عاشت وعملت تجذرت أكثر من نصف قرن تحولت خلاله إلى «الحاجة كريستينا»، حيث أضفى عليها العمر والحكمة والتجربة هالة سحرية، صارت بها جميعاً قرة عين المخيم، ووجعه، وبؤره مجلس نسائه.

هذه هي بعض خيوط ومرارات البتر التي مرت بها «الحاجة كريستينا» كما يخبرنا  عاطف أبو سيف، الكاتب والأكاديمي والناشط السياسي والروائي الفلسطيني، ابن غزة، في رحلة مريرة ورصينة الصياغة عبر روايته الأخيرة «الحاجة كريستينا» (الصادرة عن دار الأهلية، عمان، 2016). هنا يعيد أبو سيف سرد نكبة الفلسطينيين ولجوئهم وأوجاعهم من زاوية جديدة وملفتة. في «حياة معلقة»، روايته السابقة التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية، سلط أبو سيف مجهره الروائي على حيوات الناس التي «عُلقت» في مدن ومخيمات القطاع بعد النكبة، حيث انحشروا في خيم «الأونروا» وغرف الصفائح الضيقة والحقيرة تاركين أفئدتهم مبتورة نصفين على جانبي الأسلاك الشائكة التي صارت تفصلهم عن فردوساتهم المفقودة. ظلوا معلقين عقوداً مريرة من السنين وهم يحصون أشعة الشمس وماء البحر بانتظار عودتهم إلى بيوت تركوا أبوابها مفتوحة، بمظنة أن مغادرتهم لها ستكون قصيرة وسريعة.

أبو سيف المولود في مخيم جباليا في غزة كبر على حكايات جدته «عائشة» بنت يافا وعاشقتها، والتي كتب مرة أنه يتمنى أن يكتب قصتها وأن يكون وفياً لعشقها لمدينة البحر وحكاياتها. لنا أن نقرأ الآن جانباً من حياة وذاكرة وعشق «عائشة» لحارتها وناسها ومدينتها المفقودة في «الحاجة كريستينا». فهذه الأخيرة وبعد أن أدمنت الوجع والمرارات تحولت إلى شبه قديسة، لا تعتاش على حكايات الماضي اليافاوي واللندني وحسب، بل تصنع حكاياتها الخاصة، وحكايات من حولها. تعيش عوالم عديدة مرت بها، فلسطين ما قبل النكبة، بريطانيا الناكبة وسنوات ما بعد النكبة، ثم مخيمات غزة ونكباتها المتتالية وصولا إلى حرب إسرائيل على القطاع عام 2009. وفي وسط هذه العوالم تحتفظ بزيارة دورية لما يُعتقد بأنه قبر أدموند الشقيق الأكبر لجورج النبيل، والذي قتل في الحرب العالمية الأولى في حروب البريطانيين مع الأتراك ودفن في مقبرة الإنجليز في غزة.

الحاجة كريستينا، وكما كانت الجدة عائشة، ليست امرأة عادية، ولا فرداً عابراً في زمن ومكان معينين، هي الصورة البطيئة لمشهد «البتر» وتخليق حواضر للبشر مفصومة عن ماضيهم بتدخل الغريب ـ الوعد ومنفذيه. قارئ «الحاجة كريستينا» لا يستطيع فصلها عن ثيمة «البتر»، اللعنة التي لاحقتها منذ يفاعتها وظلت رفيقتها في الحياة، تتجدد في مراحل عمرها ف «تبتر» قريبة معمرة لها هنا، أو صديقة مخلصة لها هناك، وتأتي لها بأخبار كلها مبتورة، قصص عصية على الاكتمال، وأحلام مشطورة لـ «فريال» و»سلطانة»، وتمنيات يبلعها البحر كما هي تلك القوارب الفقيرة لصيادي غزة، منخورة بالتآكل مثل قارب «حمدي» المتهالك بعد ستين سنة من الصيد.

يتواصل «البتر» في حياة «الحاجة كريستينا»، وشعبها، ويتواصل على الضفة الأخرى من السلك الشائك ترسخ الوعد البلفوري الذي قصم ظهر «فضة» وحولها إلى «كريستينا» ومعها قصم ظهر شعب بأكمله. لا تتوقف قصة البتر واللااكتمال في غموضها وتقلب رواياتها، فتختفي في يوم ما الحاجة كريستينا من المخيم. يقول شهود: إنهم رأوا سيارة تابعة للسفارة البريطانية تنقلها من بيتها وسط ضجيج قنابل الطائرات الحربية وزعيقها والانفجارات التي تدوي في طول وعرض القطاع. الحاجة كريستينا تحمل جواز سفر بريطانيا من سنوات عيشها هناك، وهي مسجلة كواحدة من الرعايا البريطانيين في غزة، والسفارة مهجوسة بتأمين وترحيل رعاياها. يندهش الناس ويتساءلون: لماذا تقبل كريستينا المغادرة وهي قد صمدت أمام ويلات كبيرة واكبر واجهت غزة في العقود الخمسين الماضية. لماذا تقبل «البتر» طواعية هذه المرة ولا تواصل نشر ابتسامتها الساحرة في المخيم، وبسط الجسر الدافئ الذي تصل به بين عوالمها الداخلية، وعوالم من حولها. بلفور لم يأخذ فلسطين ويمنحها لليهود فحسب بل سرق أيضاً جزءاً من قلب «فضة» ومزق ما تبقى من أجزاء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحاجة كريستينا  وحرب «العم» بلفور الحاجة كريستينا  وحرب «العم» بلفور



GMT 00:51 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الوزير اليهودي المُنصف الذي عارض وعد بلفور

GMT 07:27 2017 الثلاثاء ,09 أيار / مايو

الحداثة والعلم من منظور الصهيونية في فلسطين

GMT 05:27 2017 الأحد ,09 إبريل / نيسان

انتفاء المثقف الخارق...!

GMT 05:19 2017 الأحد ,09 إبريل / نيسان

انتفاء المثقف الخارق...!

GMT 05:55 2017 الثلاثاء ,28 آذار/ مارس

إيران ونحن ... ما العمل؟

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 14:58 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

محمد رمضان يتحدّى منافسيه بفيلمه "هارلي"

GMT 01:45 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

بطولة كأس البحرين لسباق الخيل تنطلق في بريطانيا السبت

GMT 18:37 2016 السبت ,17 كانون الأول / ديسمبر

مفيدة شيحة تُهاجم غيتس خلال "الستات مايعرفوش يكدبوا"

GMT 07:55 2019 الأحد ,13 كانون الثاني / يناير

انتخاب نساء أكثر في الحكومات يُقدّم مساهمات حقيقية

GMT 13:31 2018 الإثنين ,23 إبريل / نيسان

الدكتور علي جمعة يقدم برنامج "فن الدعاء" على "CBC"

GMT 05:28 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

إنتاج علاج جديد للسرطان يمنع انتشار المرض

GMT 20:24 2017 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

النجم حسن الفذ يُعلن عن استعداده لعرضه الفني الجديد

GMT 04:55 2015 الأحد ,27 كانون الأول / ديسمبر

أستاذ تاريخ يشبه إزالة "رودس" بتدمير داعش آثار سورية

GMT 10:11 2015 الجمعة ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي على أسرار جمال اللون الكحلي في زفافك

GMT 06:28 2017 الأحد ,04 حزيران / يونيو

7 أخطاء يجب عدم الوقوع بها في موضة الصيف

GMT 20:52 2020 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

طرق مذهلة لـ إخفاء الهالات السوداء بالمكياج
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday