واشنطن يوسف مكي
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في كافة المنازل في الولايات المتحدة الأميركية ، بالإضافة إلى غرف الأخبار، يدور حول نقطة واحدة فقط هي: "ما معنى القومية البيضاء؟". بهذا السؤال استهلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تقريرًا لها يوم الإثنين.
وقالت الصحيفة إن أكثر الفئات سعادة بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية التي أجريت قبل نحو أسبوعين، هم اولئك الذين نصَّبوا أنفسهم كأنصار لفكرة "القومية البيضاء"، خاصة بعد أن قام باختيار ستيفن بانون ليشغل منصب كبير المستشارين الاستراتيجيين للرئيس الأميركي، حيث أنهم اعتبروا هذا الاختيار بمثابة انتصار ثمين لتوجهاتهم.
وأثارت هذا الاختيار جملة انتقادات من قبل العديد من المنظمات الحقوقية والكيانات العاملة في مكافحة التمييز ، حيث أن مسؤوليها حذروا من احتمالات اقدام الإدارة الجديدة على تبني النهج اليميني المتطرف في ضوء محاولتها لإعادة إحياء العنصرية والقومية البيضاء لتحويل تلك المفاهيم نحو القبول الجماهيري. إلا أن الجزء الأكبر من المواطنين الأميركيين يقف متسائلا حول ماهية المصطلح غير المألوف في المجتمع الأميركي.
مفهوم "القومية البيضاء" يتداخل مع تفوق أصحاب البشرة البيضاء داخل المجتمع الأميركي، إلا أن العديد من المحللين السياسيين يرون أن تلك الظاهرة ليس بالأمر المستجد الذي طرأ على الانتخابات الأخيرة، ولكنها كانت تشكل قوة كبير في مختلف الأحداث الانتخابية داخل الولايات المتحدة، خاصة الانتخابات الرئاسية، وإن لم تكن مرئية من قبل، ويرون أنها سوف تبقى عاملا قويًا وحاسمًا في السياسة الأميركية والأوروبية خلال السنوات المقبلة.
اريك كوفمان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيركبيك في لندن، قد قضى سنوات في دراسة الطرق التي يتقاطع فيها العرق مع السياسة. ففي الوقت الذي اتجه فيه معظم الباحثين في هذا المجال نحو التركيز على الأقليات العرقية، اتخذ كوفمان الطريق المعاكس والمتمثل في دراسة سلوك الأغلبية العرقية، وخاصة البيض في الولايات المتحدة وبريطانيا.
ويقول كوفمان إن "القومية البيضاء هي الاعتقاد بأن الهوية الوطنية يجب أن تقوم في الأساس على العرق الأبيض، بينما ينبغي أن يكون المواطنون البيض هم المسيطرون على الأغلبية السكانية والمهيمنين على ثقافة الأمة والحياة العامة."
ونتيجة لذلك، تصبح مصالح المواطنين البيض هي الأولوية القصوى على حساب المجموعات العرقية الأخرى، حيث يرى كلا من القوميين والعنصريين البيض أن سياسات التمييز العنصري ينبغي أن تكون جزءا لا يتجزأ من القوانين والسياسات.
ويميز كوفمان بين القوميين البيض والعنصريين البيض، فيقول أن المصطلحين ليسا مرادفين، فالعنصرية البيضاء تقوم في الأساس على أن التفوق الأبيض على الأجناس الأخرى هو مسألة فطرية، بينما القوميون فتقوم أفكارهم على ضرورة استمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية، بحيث لا يقتصر التفوق على الجانب العددي أو الثقاف فقط.
ويضيف كوفمان "كانت القومية البيضاء بمثابة أمر افتراضي داخل المجتمع الأميركي، حيث لم تصل إلى مستوى الأيديولوجية لفترة طويلة من الزمن، حتى وقت قريب عندما شعر القوميون بأن الأمة تعد بمثابة امتداد لمجموعتهم العرقية." ولكن التحدي الأكبر الذي سوف يواجهه القوميون هو أن التغيرات الديموغرافية، وحركات الحقوق المدنية والضغط من أجل التعددية الثقافية، سوف تضعهم أمام افتراضات جديدة تقوم على أن الأمة لم تبنَ حول هويتهم فقط.
وبالنسبة لكثير من الناس البيض، بطبيعة الحال، فإن التنوع المتزايد شيء ينبغي الاحتفاء به، لكن بالنسبة للآخرين يبدو أن الأمر أصبح بمثابة مصدر للتوتر، حيث أن هؤلاء المتوترين هم أكثر من يقدم الدعم للحركة القومية البيضاء، حيث يرون أن الولايات المتحدة ينبغي أن تحمي الأغلبية البيضاء عن طريق الحد من الهجرة بشكل حاد، وربما بعضهم يدعو لطرد المواطنين غير البيض من البلاد.
يبدو أن اختيار السيد ترامب لستيف بانون ليكون أحد كبار مستشاريه في البيت الأبيض، يطرح العديد من التساؤلات في ظل توجهات الرجل التي تتجاوز مجرد الانتماء لفكر القومية البيضاء، ولكنه أحد المؤمنين بأفكار اليمين المتطرف، والتي تشكل القومية البيضاء أحد أركانها.
ويقول بانون، في تصريح سابق لـ"نيويورك تايمز" إنه لا يعتنق تلك الأفكار القومية التي تقوم على أساس عرقي، إلا أن موقع "بريتبارت" الإخباري، والذي كان يترأسه، بانون ساهم بصورة كبيرة في غرس تلك الأفكار. وبانون نفسه تحدث في مقابلة إذاعية ترجع إلى العام الماضي، حيث أكد معارضته لفكرة قبول مهاجرين في الولايات المتحدة، حتى وإن كان هؤلاء المهاجرون من أصحاب المهارات العالية، معتبرا أن هؤلاء المهاجرين يمثلون تهديدًا كبيرا للثقافة الأميركية. وانتقد بانون الزيادة الكبيرة في أعداد الاسيويين في "وادي السليكون"، مؤكدا أن المجتمع الأميركي لا يقوم فقط على الاقتصاد، ولكنه في الأساس مجتمع مدني.
وتقول "نيويورك تايمز" إن العديد من الدراسات كشفت أن الرغبة في حماية القيم التقليدية والثقافة هي الدافع الأكبر لصعود الشعبويين في العديد من المجتمعات، وكانت أيضا الدافع الأهم الذي أدى في النهاية إلى صعود الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة بعد الانتخابات الأميركية الأخيرة التي جرت خلال هذا الشهر.
وأضافت أن العديد من الناخبين لا يضعون أنفسهم في إطار القوميين، كما أن الأفكار والتقاليد التي يرغبون في حمايتها ليست بالضرورة أفكارًا عنصرية، إلا ان هذه التقاليد ربما تشكلت في الأساس عندما كانت الهوية والثقافة الوطنية مرادفا أساسيا للون، وبالتالي يبقى الدافع لحمايتها من جراء التغييرات الاجتماعية والديموغرافية قائما على أساس ثقافي من دافع حماية الهوية.
وفي ورقة عمل حديثة أجراها بيبا نوريس، أستاذ العلوم السياسية في كلية كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة "هارفارد"، كتب يقول إن السبب الكبير في صعود التيار الشعبوي إلى السلطة هو القلق المتزايد لدى مجموعات الكبار في السن من البيض من جراء التنوعات التي يشهدها المجتمع في المرحلة الراهنة وتداعياتها على المستقبل، وهو الأمر الذي دفعهم للتوحد خلف ترامب، ليشكلوا الغالبية للمرة الأولى منذ سنوات.
وذهبت الباحثة السياسية إليزابيث ايفارسفلاتين إلى نفس الاتجاه، حيث أنها رأت ان السبب في التوجه العدواني تجاه المهاجرين في أوروبا هو حالة القلق المتزايد من جراء التهديد الذي تمثله تلك الفئات للهوية الوطنية والثقافية المتأصلة في المجتمعات الأوروبية، وبالتالي يسعون لإغلاق مجتمعاتهم في وجه المهاجرين لحماية هويتهم.
وبالتالي تمكَّن الخطاب الانتخابي الذي تبناه السيد ترامب، خصوصًا حول قضايا الهجرة، في مداعبة مخاوف وقلاقل القطاع الأكبر من الناخبين البيض الأكبر سنًا والأقل تعليمًا، ليتجهوا نحو دعم المرشح الجمهوري ترامب خلال الانتخابات الأخيرة على حساب منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.