النائب أحمد الطيبي

يتغيّر العالم بسرعة مخيفة، وفي خضم هذا التغيير تتآكل قوة الدولة ومكانتها، الدولة القومية التي نعرفها تتعرض للهجوم من اتجاهين. من الأعلى تمتص العولمة ثديها: اتحادات فوق دولاتية، اتفاقات تجارة تلغي الحدود، القوة البشرية تحولت الى متحرك، شركات متعددة الجنسيات تنتج في مكان واحد، تحرك العمال الى مكان آخر وتدفع ضرائب (اذا قامت بذلك) في مكان ثالث.

لم يبق للدولة الكلاسيكية ومؤسساتها ومنتخبيها سوى أن تشاهد بقلق دون القدرة على فعل شيء كيف أن القوى الضخمة تسحب من ايديها بالتدريج، من الأسفل، أيضا، تتسرب الدولة وتتراجع أمام "القوى الصغيرة". هويات جماعية غير حكومية (الأسكتلنديين، الباسك، والمتدينين المتشددين "الحريديم")، والمجموعات العرقية ("هنغاريا للهنغاريين"، "التفوق الأبيض"، "دولة اليهود")، منظمات المجتمع المدني والجمعيات القطاعية (الشرقيون، النساء)، هؤلاء كلهم يضربون بكل قوتهم بالمشترك الذي لديهم، لصالح المنفعة القطاعية وتفضيلاتها. ولم نتطرق بعد إلى التسارع المجنون للتكنولوجيا، والاقتصاد العالمي وردود الفعل العاصفة من قبل أمنا الأرض.

كل هؤلاء يدفعون من أجل التراجع عن التقدم، ومن أجل العزلة وسياسات الخوف. لا عجب، إذاً، في أن الشعوبيين يتمتعون بشعبية كبيرة، ومن السهل فهم سبب مطالبة توم فريدمان، في كتابه الأخير "شكرًا لأنك تأخرت"، بإعادة المجتمع إلى مركز حياتنا، كمرساة للتضامن بين الناس. فالفرد وحيد جدا، والعولمة كبيرة جدا، والدولة أصبحت أضعف بكثير. ولهذا السبب، يجب أن يكون هناك وسيط جديد - المجتمع. وفي السياق الإسرائيلي، يجب على المرء التفكير في تعزيز قوة المدينة كمنظمة مجتمعية مناسبة.

ويجب إعادة النظر في السياسة البلدية. وأود أن أقترح سيناريوهين للانتخابات البلدية القادمة. أسهل شيء يمكن أن يحدث في حيفا، مدينة السلام النهائية في إسرائيل. ذات مرة قال لي رئيس بلديتها يوني ياهف: "المدينة على نحو صحيح جدا، لأن موسى وعيسى ومحمد لم يزوروها أبدا". وعلى أي حال، لم يتركوا فيها أثر تعصبهم الديني المسبب لسفك الدماء، فلا يوجد مكان مناسب أكثر من حيفا، لإعادة إصلاح الجمهور الإسرائيلي. في هذه المدينة، من الممكن تشكيل قائمة يهودية-عربية مشتركة، تمثل تفضيل التعايش لمصلحة المجتمع المختلط. نصف أعضائها سيكونون من اليهود والنصف الآخر من العرب، وسيكون التقسيم بين النساء والرجال متساوياً. وتشمل القائمة أنصار "ميرتس" والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة والقائمة المشتركة، الذين يؤمنون بالتعايش والتمكين المتبادل، وخاصة في العمل من أجل مستقبل أفضل من الماضي الذي يلاحقنا.

والمكان الثاني هو القدس. دعنا نقل فقط إن الزعيم الفلسطيني-الإسرائيلي الأكثر شهرة في جيلنا، عضو الكنيست أحمد الطيبي، سيرشح نفسه لرئاسة بلدية القدس على رأس قائمة يتعاون فيها مع شخصيات عامة يهودية بارزة على الأقل مثله، وفي ظروف معينة، من الممكن أن يحقق الفوز، وفي ظل ظروف أخرى، يمكن أن يفوز بحصة كبيرة جداً من مقاعد المجلس البلدي، وبالتالي يمكنه أن يحسن كثيرا أوضاع المميز ضدهم في القدس الشرقية.

لكن هذا هو الأمر البسيط. وجود قائمة مشتركة في القدس ستكون - وهذه النبوءة ملزمة – بمثابة نقطة أرخميدس في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. للمرة الأولى منذ الضم الاعتباطي والوحشي للبلدات والأحياء التي لم تكن ضمن القدس أبداً، ولا حتى في أيام الإمبراطورية العظيمة لداود وسليمان، ستفتح عيون وآذان الإسرائيليين. لأن القدس هي جوهر الخداع الذاتي الإسرائيلي، من جهة، نقسم جميعا بكل ما هو عزيز علينا أن المدينة لن تقسم أبداً، ومن جهة أخرى يشعر الكثيرون بأن الأغلبية الإسرائيلية ما زالت تريد تسوية سياسية تقوم على أساس دولتين لشعبين: حتى رئيس الحكومة قال ذلك في خطاب بار ايلان. ولكن إذا تم الاتفاق على دولتين، فإن عاصمة الدولة الثانية - فلسطين - ستكون أيضًا في القدس، ما يعني تقسيم المدينة. وفي المقابل، إذا لم يتم تقسيم المدينة أبداً، فإن البلاد لن تكون مشتركة أبدا. وهكذا نتحرك جميعا، رغم إرادتنا، نحو نموذج دولة واحدة لشعبيها.

وستجبر المنافسة الجدية والنوعية على القدس النظام بأكمله على التعامل مع الأمر. اليمين، الذي يريد دولة واحدة، سوف يرى أمامه النموذج ثنائي القومية الذي سينطبق على بقية الفضاء الإسرائيلي بمرور الوقت. واليسار، الذي يريد دولتين لشعبين، سيحصل على دعم قوي. والفلسطينيون - في إسرائيل والقدس الشرقية ورام الله – سيتحولون من ضحايا الاحتلال إلى قادة الدينامية. على أي حال، لن يبقى أي شخص في القدس أو إسرائيل أو المنطقة بأكملها غير مبال. وكما كتب الراحل ليونارد كوهي: "صليت ليالي كثيرة من أجل هذا، لأبدأ عملي، أولا سنأخذ مانهاتن، ثم سنأخذ برلين".