مسجد محمود بك السنجق

من مساجد طرابلس الجميلة والمميزة، مسجد محمود بك السنجق القائم في سوق القمح، عند الطرف الشمالي لطرابلس التاريخية الأثرية، التي تعرف بـ"طرابلس المملوكية".

يقع المسجد العثماني عند طرف المدينة الأثرية الجنوبي، وكان يفترض أن يكون موقعه خارج المدينة الأثرية المملوكية، إذ تقوم بوابة المدينة القديمة بعده مباشرة، أي أنه ينضم إلى المدينة المملوكية التي تقفل عليها هذه البوابة، لكنه من الأبنية العثمانية، بحسب طريقة بنائه، وبحسب الوقفيات التي تثبت انتماءه العثماني.

المدينة أثرية، فيها بعض من السوق القديم، وبوابة المدينة القديمة، ومسجد السنجق، لكنها تعج بالفوضى، والأعمال التجارية اليومية التي تترك على المحلة تشويهات تنتهك الجمال الأثري التاريخي للمحلة، ولأن المسجد حظي باهتمام الأهالي، فرمموه، ورتبوا حالته، مع بعض تحديثات، ما جعله متميزًا عن محيطه، ويلفت نظر العابر عبر بوابته الضيقة المرتبة التي تظهر أن أمرًا مهمًا في الداخل .

تفضي البوابة إلى فسحة واسعة، مسقوفة، في مقدمها إنشاءات للحمامات والوضوء، وإلى اليسار باب المسجد عبر إنشاءات هندسية جميلة وزركشات فنية .

المسجد بناه أحد ولاة طرابلس، في الفترة العثمانية، بحسب المهندس المتخصص بالشؤون العثمانية، الدكتور خالد تدمري، وأضاف: هذا الجامع بني في منطقة سوق القمح لكي يلبي حاجات أهالي السوق، والتجار الوافدين إليه في تلك الآونة، أصبحت محلة باب التبانة في آخر 150 عامًا من الحكم العثماني، منطقة ناشطة تجاريًا، والتوسع والامتداد العمراني للمدينة القديمة راح باتجاه شمالي نحو باب التبانة، وسوق القمح المجاور، وصولًا إلى الطريق المعروفة اليوم بشارع سورية.

وبنى محمود بك المسجد، والسوق المحاذية له، لكن بوابة التبانة لا ندري تحديدًا ما سبب بنائها، فهي تعود للعصر المملوكي بينما جاء الجامع ملاصقًا لها مباشرة لجهة المدينة الداخلية .

يلاحظ أنَّ العمران امتد باتجاه التبانة التي تحولت من مزابل، إلى سوق عامر بالحركة التجارية، وبقيت البوابة موجودة، بينما تابع السوق توسعه لمسافة بعدها .

ويذكر تدمري أنه كانت هناك أكثر من عشر خانات تفصل البوابة عن شارع سورية ما يدل على أن المدينة توسعت خارج باب التبانة، موضحًا أن البوابة موجودة منذ أيام المماليك، لكن بلا عمائر حولها .

ومن المعروف أن سوق القمح هو من وقف السنجق بحسب ما ثبت من الوثائق القديمة، "حين توسعت المدينة بنى السنجق الجامع، والسوق الملاصق له" كما قال تدمري، ذاكرًا أن سوق القمح هو من وقف السنجق بحسب ما ثبت لنا من الوثائق القديمة، واتضح لنا من الصور القديمة أن هذا السوق في المسافة المتصلة بالجامع، كان شبيه خان الخياطين، أي مغطى بالقناطر من فوق بين الجامع وحتى بوابة التبانة .

أزيلت القناطر مع الوقت، وتغيرت معالم السوق، وعلم أنه كان هناك نية لإعادة إعماره كما كان، على الشكل السابق، لكن الظروف أدت إلى إهمال السوق، وتوقفت أعمال صيانته .

ويتحدث تدمري عن تاريخ بناء الجامع ويرجعه إلى 1610 ذاكرًا أنَّ بانيه توفي ،1621 وهو بنى مدرسة تعرف بالمدرسة المحمودية، ملاصقة لجامع الأويسية الموازية لسوق السمك أسفل قلعة طرابلس - مئات قليلة من الأمتار إلى الجهة المقابلة لسوق القمح للجهة الجنوبية - وهي مدرسة صغيرة تتبع لجامع الأويسية، وفي باحتها دفن محمود بك السنجق، ولا يزال مدفنه قائمًا هناك، وعليه كتابة مؤرخة بـ1621 . أي أنه لم يدفن في الجامع الذي بناه، إنما في حديقة المدرسة الصغيرة التي بناها .

يعكس الجامع العمارة العثمانية - عمارة السلطنة التي انتشرت بدءًا من اسطنبول إلى كل الولايات العثمانية - والتي تتميز بعدة خصائص أبرزها أن يكون الجامع كله مغطى بقبة واحدة، وأن تكون المئذنة رفيعة وطويلة، وفي قمتها تكون على شكل "قلم الرصاص" .

ويوضح تدمري: "في طرابلس، توجد ثلاث مآذن على هذا الطراز، جامع الأويسية الأول، ومحمود السنجق الثاني، والحميدي في الزهرية الثالث، وهي تعكس العمارة العثمانية التي نراها في اسطنبول، وفي العمارة العثمانية المآذن ليست مضلعة ولا مربعة" .

تغطي جامع السنجق قبة كبيرة بالكامل ومئذنة من الخصائص العثمانية، ومنبر يأخذ الشكل العثماني، وهو منبر ممسوك، وله من فوق رأس هرمية خلافًا للمنابر المعروفة في العصر المملوكي .

ويتذكر تدمري أنه كان لهذا الجامع باحة خارجية مكشوفة، في وسطها مكان للوضوء كما هي العادة في مساجد بلاد الشام، ولكن الباحة المكشوفة في الستينات، سقفت بالباطون وبات الجامع مغلقًا بالكامل .

وللمسجد مدخلان، واحد من سوق القمح، وآخر من الجهة الخلفية حيث منطقة الخانات، وأصبح محيطه في حالة مزرية عند المدخل الثاني حيث يتواجد باعة للحم وسوى ذلك مما يترك الكثير من الأوساخ .

وعلى سطح الجامع غرف كان يقيم فيها طلاب العلم، وغيرهم من الوافدين، وهي موقوفة له، ولا تزال هناك عائلات فقيرة مقيمة على سطحه .

كذلك، تغير رأس المئذنة التي لحقتها أضرار في عدة مراحل، وباتت رأسها باطونيًا مسطحًا، وليس الرأس الأساسي للمئذنة التي كانت مخروطية الشكل .

على مداخل الجامع من الداخل توجد حجارة مزركشة استحضرت من منازل مجاورة جرى هدمها في فترات متفاوتة في ظروف الحرب، كما يعتقد تدمري، لافتًا إلى أن منبر جامع محمود بك الزعيم مميز في أنه منبر من الحجر، وليس من الخشب كما هي باقي المنابر في طرابلس، وأيضا غني بالزخارف . ويذكر تدمري أنه في الثمانينات، تولى أبناء المنطقة ترميمه .