زيد الدين ساردار وهو يؤدي فريضة الحج

تستهوي الرحلات المختلفة حول العالم قطاع عريض من الناس؛ حيث يسعى الكثيرون إلى تنظيم جولات ترفيهية وتثقيفية في بلدان العالم المختلفة والتعرُّف على أناسٍ آخرين وتجارب أخرى غير التي نشأوا عليها، ولكن ماذا عن رحلة الحج الكبرى، تلك الرحلة الروحانية التي يطمح إليها عموم المسلمين كل عام ويلبّون نداء الله فيأتون إليه أفواجًا من كل فجّ عميق.

ويروي زيد الدين ساردار، الباكستاني الجنسية، تجربته مع تلك الرحلة الروحانية ويكشف عن مشاعره في البقاع المقدسة، ويذكر: "في الصباح الباكر نظرت إلى الجمع الحاشد الذي يمتد على بعد أميال من الحافلات الصفراء للمدارس الأميركية والمكتوب عليها باللغتين العربية والإنكليزية وبها علم من القماش الأبيض، تلك العلامة الوحيدة التي تجلب الناس من كل فجّ عميق، بل وبمختلف الألسنة والألوان؛ حيث يرتدى الحجيج نفس الزي التقليدي الأبيض الغير المخيّط والذي يعرف باسم الإحرام، وعلى هيئة واحدة؛ وهي كشف الكتف الأيمن، جاء هؤلاء الحجيج من شتى بقاع الأرض وتوجّهوا جميعًا في وقت محدَّد إلى بقعة واحدة وهي: مكة المكرمة".

ويضيف ساردار: "وبمجرد التجمُّع يتحركون في الأماكن المقدسة والانتقال من المزدلفة التي يقضون فيها الليل تحت النجوم إلى منى، والتي تبعد أميالاً لرمي جمرة الشيطان في رمز إلى إهانته وإلى حركاتهم وانتقالاتهم بسهولة ويسر بعيدًا عن العوائق، بل وفاقت الديناميكية السائلة، ومن موقعي المتميز يمكنني مشاهدة ذلك؛ حيث يتم معالجة أي ازدحام بسرعة وبسلاسة ولا أحد يجد الإجابة حتى باستخدام أحدث الوسائل، فأخذتنى هذه التجربة التي فاقت التوقعات والأفكار العزيزة لهذا المكان وفي هذا التوقيت، فربما الحشد المثالي والواقعية هي التي استرعت انتباهي، وبما أنني أرى المشهد بعيناي، فإنني أنهمك في الاستضافة الهائلة لحافلة واحدة ووجه واحد".

ويكمل ساردار: "علقت الحافلة في ازدحام مروري شديد، فرأيت من إحدى النوافذ حاج يجلس في سكينة، شاحب الوجه عيناه مضيئتان ويتطلع إلى السماء، فأخذني المشهد وانتقلت مهرولاً نحو هذا الرجل العجوز، وبينما أنا كذلك أدركت أنه علم بتوجهي إليه رغم أنه لم يحرك نظره وباقترابي منه تحرَّك من الحافلة ونزل منها وبينما أنا كذلك فإذا هو أمامي وجهًا لوجه في هدوء وسكينة واطمئنان، وفي صمت مد يده وأعطاني أغطية سرير كان يمسك بهما وبصورة غريزية حملتهما واتبعته وأخذني إلى ما وراء الزحام، وبعدها طلب مني فرشها وجلسنا ولا أدري كم انقضى من الوقت ونحن صامتون، فلا يوجد شيء نقوله، وبعدها أدركت أنه سابح في الملكوت وبهدوء قمت لأغطيه بالملاءة الثانية، وتسائلت ما العمل يا له من نصب تذكاري ولم أخبر عنه إذا قضت عليه دوامة الزحام المفاجئة، ولكن كان لديه الإجابة فهو صاحب القرار النهائي".

ويضيف ساردار: "وفي 16 كانون الأول/ ديسمبر 1975 بدأت أداء ركن من أهم أركان الدين الإسلامي وهو فريضة الحج أو زيارة بيت الله الحرام في مكة المكرمة ودهشت لما رأيت من وجودي بين أكثر من مليوني حاج، وحينها وجدت الرجل العجوز ميتًا وأدركت أنه عرف معنى الحج أفضل مما أعرف".

وعن مكة ذكر الباكستاني: "مكة هي مهد الدين الإسلامي ومكان مولد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهي أقدس المدن في الإسلام وزيارتها فريضة ولو لمرة واحدة على مدى الحياة، مع هذا فقد لا يتمكّن معظم المسلمين من زيارتها ولكنهم يتذكرونها ويتذكرون موقعها الجغرافي؛ لأنها قبلتهم في الصلاة وأول شيء يتعلمه الطفل المسلم وهو تحديد القبلة: أي مكة".

ويذكر: "كان أول درس ديني في حياتي في باكستان التي ولدت فيها وقضيت طفولتي ما علمتني إياه والدتي، كان عن مكة وحينها طلبت مني تلاوة القرآن الكريم الذي عرفت منه أنه نزل على الرسوم محمد (صلى الله عليه وسلم) وما سمعته من قصص عن النبي وعن مكة جعلني أعرفها وأعرف غار حراء أكثر مما أعرف وطني وعرفت المدينة المنورة التي هاجر إليها الرسول محمد، والتي كانت تسمى آنذاك بيثرب وبئر بدر وجبل أحد؛ حيث الغزوات، ويعود تاريخ مكة إلى ما قبل العصر الإسلامي حيث زارها آدم (عليه السلام) وهو أول رسول دفن هناك وقام سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء الكعبة، ولكن مكة أكبر من كونها مكان لتشهد حدثًا تاريخيًا ولكنها مقدسة؛ لأنه نزل فيها القرآن على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)".

ويضيف ساردار: "وعندما أرسلت لتعلم المزيد من الدروس الدينية في المدرسة علمت أنه من أركان الإسلام زيارة البيت الحرام، أي مكة، إنَّ استطعت ولو لمرة واحدة في حياتي لأداء فريضة الحج وأدعو الله أنَّ يغفر لي ويبارك في هذا المكان ومع هذا الحشد الغفير".

ويتذكر ساردار: "سافرت عائلتي وانتقلنا إلى مناطق عديدة ومررنا بمكة وعشنا في لندن، ولكن مع كل هذا بقيت مكة هي النقط الرئيسية والحجر المغناطيسي، فحلمت وأنا في العشرينات بزيارتها، وها هو الحلم يتحقق بوجود عرض عمل ممتد بالعمل في أحد المراكز البحثية للحج، الذي تأسَّس حديثًا في مدينة جدة في السعودية ويقع المركز في مجمع الملك عبدالعزيز الجامعي الجديد، وكانت مهمتي دراسة المشاكل اللوجستية للحج وماضي مكة وحاضرها ومستقبلها، وعملت لمدة خمس سنوات في المركز وأشارك في أعمال الحج على مدار هذه المدة، وأدرس ورود ورحيل الحجاج وشاهدت مكة وأصبحت مألوفة لي وشاهدت تطورها على نحو مغاير عما نقدمه من خطط في المركز".

واختتم: "لكن رغم كل هذا فلا شيء يمكنني مقارنته بزيارتي لهذا البيت للمرة الأولى، حينما دخلت إلى الصحن من باب الملك ورأيت الكعبة وقولت في وجداني "إنني هنا" ولم أستطع أنَّ أتفوه بها لقد أخذتني الكعبة ومنظرها وما يحيطها من هواء نقي وماء عذب وشعرت بالرغبة في فتح ذراعي ومعانقة الجميع فلا يمكنني تخيل تلك اللحظات بل كانت أكثر مما كنت أتوقعه في الحقيقة".