الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر

رغم مضي 45 عاما على رحيل الرئيس جمال عبد الناصر مازال حضوره طاغيا في الحياة المصرية والعربية وحتى على مستوى العالم قاطبة ، فيما يستمر الجدل الثقافي حول تجربته التاريخية وإنجازاته وإخفاقاته وإمكانية استلهام بعض الدروس من هذه التجربة المحفورة بوشم الاخلاص في الذاكرة الثقافية المصرية والعربية.

وتأتي الذكرى الخامسة والأربعين لرحيل جمال عبد الناصر فيما ينحت البعض مصطلحات جديدة مثل "الناصرية الجديدة" فى ظل أزمة اليسار وصعود الرأسمالية المعولمة ويشير البعض الآخر لمغزى رفع الجماهير المصرية صور ناصر في ثورتهم الشعبية بموجتيها في 25 يناير 2011 و30 يونيو عام 2013 .

والنظرة العامة للمشهد المصري والعربي في سياق هذه الذكرى تكشف فورا عن أن الجدل حول التجربة الناصرية لم ينته بعد رغم مضي 45 عاما على رحيل جمال عبد الناصر لتفقد الأمة والإنسانية كلها "رجلا من أغلي الرجال واشجع الرجال واخلص الرجال".

واذا كان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري قد وصف جمال عبد الناصر "بعظيم المجد والأخطاء" فان كتابات كبير الرواية العربية والنوبلي المصري نجيب محفوظ عن التجربة الناصرية تشير بصيغ مختلفة " لإنجازات عملاقة مقابل أخطاء وخطايا تتعلق بالحريات وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان" فيما لفت فريق من المثقفين غير مرة لأهمية الانتباه للسياق التاريخي لهذه التجربة وحجم التحديات التي جابهتها. 

وبصرف النظر التقديرات والرؤى الشخصية التى قد تختلف وتتباين ، فنموذج ناصر يتعلق برجال امنوا بعدالة قضاياهم ولم يساوموا عليها حتى تحولوا لدى المعجبين بهم الى أساطير تجسد مدى جاذبية نموذج البطل التاريخي.

وكل ذي عينين بمقدوره أن يرى هذا الحنين المتدفق على امتداد الخارطة العربية لعصر جمال عبد الناصر وذلك الحضور الحافل بالشجن في الذاكرة العربية لشخص الزعيم ومواقفه وأفكاره عبر مسيرته النضالية وسعيه المخلص لتجسيد معنى الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والانتصار للكادحين في الأرض.

كما أن الكثير من المثقفين يتفقون على أن العصر الذهبي لوزارة الثقافة المصرية واروع انجازاتها كان في ستينيات القرن العشرين وبقيادة احد رفاق جمال عبد الناصر وهو الدكتور ثروت عكاشة فيما بلغت القوة الناعمة المصرية حينئذ ذروة عالية وازدهرت المجلات الثقافية و فنون السينما والمسرح جنبا الى جنب مع المشاريع العملاقة على الأرض وفي طليعتها مشروع السد العالي.

وبعد 45 عاما على رحيل جمال عبد الناصر ثمة تساؤلات عن مآلات اليسار الثقافى وما اذا كانت المتغيرات العاصفة والممارسات الاستبدادية لأحزاب وفصائل انتمت لليسار او كانت قريبة منه مثل حزب البعث ستسدل الستار تماما على الثقافة والأفكار النظرية لهذه الأحزاب وخاصة حزب البعث بجناحيه في سوريا والعراق والذى أدمت ممارساته في مرحلة الوحدة المصرية - السورية والجمهورية العربية المتحدة قلب عبد الناصر .

ورغم الخلافات والاختلافات بين التجربتين الناصرية والبعثية فان غياب او تغييب الحريات والإحجام عن ترسيخ الديمقراطية بمضمونها السياسي والمؤسساتي امر أفضى لخسارة فادحة للنموذج القومي الناصري فضلا عن منجزه الثقافى.

غير أن ذلك لا ينفي ولا يجوز أن ينفي الإنجازات الكبيرة للتجربة الناصرية والهاماتها وإشعاعها العالمي وهي التي الهمت بالفعل مثقفين ومناضلين حتى فى أميركا اللاتينية وما زالت العلاقة بين تشى جيفارا وجمال عبد الناصر الذى تحل اليوم "الاثنين " ذكرى وفاته الخامسة والأربعين ماثلة فى الأذهان ، فيما كان الرئيس الفنزويلى الراحل هوجو تشافيز يصف نفسه بأنه "ناصرى".

واذا كانت التجربة الناصرية قد جذبت مثقفين هنا وهناك بفضل تميزها على صعيد العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتبعية فان لحزب البعث سياساته التى انحازت للفلاحين وصغار المزارعين غير أن أية إنجازات إجتماعية من هذا النوع تبددت أو شوهت جراء فيروس الاستبداد والعدوان على الحريات.

إن الأمر هنا يتعلق بتحول شامل كان قد طال الساحة الثقافية والأيديولوجية العربية فى مجملها بتأثير واضح من المقاييس الماركسية التى أعادت صياغة القوالب الفكرية العامة فيما خلص باحث مجتهد مثل الباحث الموريتاني السيد ولد اباه الى أن ما ربحه حزب البعث فى مراكز الحكم التى انتزعها عنوة خسره فى الرهان الثقافى فتحول من حزب للنخب الثقافية الى مجرد جهاز أيديولوجى للحكم الأحادى القمعى .

لا جدال أن مياها كثيرة جرت تحت الجسور منذ رحيل جمال عبد الناصر ، فيما يقول مفكر وباحث كبير مثل السيد يسين أن "النماذج المعرفية القديمة التي كنا كعلماء اجتماعيين نطبقها لفهم العالم وتفسير الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسوده قد سقطت لأنها لم تكن صالحة بعد أن تغير العالم تغيرات جوهرية وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة وانطلاق الثورة الاتصالية الكبرى وفي مقدمتها البث التلفزيوني الفضائي وذيوع استخدام شبكة الإنترنت وهبوب عواصف العولمة التي غيرت من خرائط العالم".