الرئيس الأميركي دونالد ترامب

سيتذكر التاريخ أن واشنطن أول من قرع ناقوس أول حرب تجارية في القرن الحادي والعشرين، في حرب لا يعرف أحد مداها، ففي معارك بتلك الضخامة والشراسة سيكون من الصعب على أحد أن يتبنى موقفا محايدا بصورة فعلية وكاملة ولكن ما يتفق عليه الجميع أن نتائجها وخيمة على كل المشاركين فيها، حيث ستطول آثارها الجميع سواء كان مؤيدا لها أو من معارضيها، حتى الراغبين في أن يقفوا على الحياد.

من وجهة نظر الإدارة الأمريكية وحتى بعض خصومها من الديمقراطيين، فإن بكين تنتهك حرية التجارة، ولا تمارسها بصورة عادلة، ولا تلتزم بجميع شروط التجارة الحرة.

أما الصين فتتهم الإدارة الأمريكية بأنها تقوم بعملية ابتزاز، وتشن إحدى أكثر الحروب التجارية شراسة في العصر الحديث، كونها لا تستطيع منافسة المنتجات الصينية منخفضة التكاليف.

ويمكن لأي دولة أن تتبنى وجهة نظر أيّ من المعسكرين الخصمين، ولكن ما يصعب إنكاره أن تلك الحرب ستؤثر في الجميع، حيث إن الرسوم الجمركية ستطول قائمة طويلة من المنتجات الصينية بتعرفة جمركية تبلغ 25 في المائة، ما يجعل السلع الصينية أكثر تكلفة بنسبة 25 في المائة بالنسبة للمستهلك الأمريكي.

ولكن إذا أخذ في الاعتبار أن 90 في المائة من المنتجات المدرجة في القائمة الأمريكية للسلع الصينية التي ستخضع للتعرفة الجديدة، تتكون من مدخلات وسيطة أو معدات رأسمالية، فإن أسعار المنتجات الأمريكية سترتفع محليا، وسيمتد ذلك إلى جميع السلع المصدرة إلى الخارج ومصدرها "صنع في أمريكا".
ويتوقع أن تشهد زيادة لا تقل عن نسبة 25 في المائة في الفترة المقبلة.

في المقابل، فإن السلطات الصينية تسعى إلى إلحاق الضرر بأحد أكبر بنوك التصويت السياسي لترمب، وهو القطاع الزراعي الأمريكي، إذ أن نحو 91 في المائة من المنتجات الأمريكية التي ستخضع للتعرفة الجمركية تنتمي إلى القطاع الزراعي، كما سيتضرر أيضا قطاع السيارات الأمريكي خاصة الشركات التي تصدر سياراتها إلى الصين مثل تسلا وكرايسلر.

بدوره، يعتقد الدكتور جون أندي الاستشاري السابق في منظمة التجارة العالمية والأستاذ في مجموعة أكسفورد للأبحاث، أن تداعيات الحرب ستمتد إلى الدول الأخرى.

ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "للمشهد أكثر من جانب، فالحرب التجارية ستؤثر حتما في معدلات النمو في البلدين، ولا يمكن القول إنها ستؤدي إلى الكساد على الأقل في مراحلها الأولى، ولكن حتما سينجم عنها تباطؤ في النمو، وسينخفض معدل النمو في كل من الصين والولايات المتحدة بنحو 0.5 في المائة وأكثر".
ويضيف "فإذا أخذنا في الاعتبار أنهما الدولتان الأساسيتان في مجال استيراد المواد الخام أو المواد نصف المصنعة من البلدان الأخرى، خاصة الاقتصادات الناشئة، فإن المؤكد أن الطلب العالمي سينخفض، وسيصيب الكثير من الاقتصادات مثل أستراليا وبعض بلدان جنوب شرق آسيا وإفريقيا وبعض بلدان أمريكا الجنوبية، بخسائر فادحة".

من جهتها، تؤكد إيبي دين الخبيرة الاستثمارية، أن تأثير الحرب التجارية بين واشنطن وبكين لن يقف عند حدود الصادرات والواردات الدولية، وسيمتد حتما إلى التدفقات الرأسمالية سواء المغادرة أو القادمة.

وتقول لـ"الاقتصادية" إن انخفاض معدلات النمو يوجد حالة من عدم الثقة الاقتصادية، ما يدفع برؤوس الأموال الدولية إلى الاستثمار في قنوات مأمونة، مثل الادخار البنكي، وتفادي أي شكل من أشكال المخاطرة، وهذا بالطبع يعمق من الأزمة الاقتصادية، وعندما تتعلق الأزمة بأكبر اقتصادين في العالم، فإن حركة رؤوس الأموال في السوق المالية العالمية تصاب بالخمول، ويشهد الاقتصاد مضاربات رأسمالية سريعة، وهو ما لا يصب في إيجاد حالة من الاستقرار الاقتصادي.

وتضيف "كما أن تراجع النمو الاقتصادي يضعف قدرة القطاع الخاص والشركات الكبرى في كلا البلدين على الاستثمار في الخارج بكثافة، بل قد يصل الوضع إلى تصفية أعمالها وأنشطتها الخارجية لإعادة توجيه مواردها المتقلصة إلى الداخل مرة أخرى، وهذا يعني انخفاض معدل الاستثمار الدولي".
مع هذا فإن بعض الخبراء يعتقدون أن تلك الحرب ينطبق عليها المثل العربي القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد" إذ ستسمح للبلدين بالتحول إلى بلدان أخرى بحثا عن أسواق جديدة للاستيراد والتصدير، وهذا بلا شك سيصب في مصلحة بعض البلدان وبعض القطاعات الاقتصادية.

وتعد البرازيل أحد أكبر المستفيدين من تلك المعركة، وتحديدا القطاعين الزراعي والحيواني. إذ يتوقع أن يزداد اعتماد الصين على الصادرات البرازيلية من فول الصويا واللحوم في ظل ارتفاع أسعار نظيرتها الأمريكية، بعد أن فرضت عليها بكين ضرائب بنسبة 25 في المائة، إلا أن تلك الفائدة ذات الطابع القطاعي المحدود، لا يمكن أن تعوض بأي شكل من الأشكال حجم الخسائر التي ستتعرض لها عديد من الاقتصادات الآسيوية، خاصة في منطقة جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايلاند.

ولكن القلق الدولي من معرفة تداعيات تلك الحرب التجارية على الجميع، لا ينفي أن يكون السؤال السائد حاليا متعلقا أكثر بمن سيربح الحرب في نهاية المطاف الولايات المتحدة أم الصين؟ كما يحلو للبعض أن يصيغ السؤال بطريقة أخرى، إذا كان من المؤكد أن واشنطن وبكين سيخرجان من تلك الحرب خاسرين، فمن سيكون الخاسر الأكبر؟

وتتباين وجهة نظر الاقتصاديين بهذا الشأن. فالبعض يرى أن الرئيس ترمب وهو رجل أعمال قبل أن يكون سياسيا، لا يمكن أن يكون قد قرر خوض تلك المعركة دون أن يكون مدركا تماما أن مكاسبه النهائية ستعوض حتما ما سيتعرض له من خسائر أولية.

بينما يعتقد خصومه أو بصورة أدق أنصار الجانب الصيني، أن إدارة ترمب لم تعط الصين وقوتها الاقتصادية حقها، حيث إن الصين لديها عديد من أوراق اللعبة والقدرة على المناورة بما يمكنها من تحمل الضربات الأمريكية، وأن تبنيها سياسة "النفس الطويل" سيمكنها من التغلب على صاحب البيت الأبيض، حتى وإن كان رجل أعمال.

ولكن هذا لم يحل دون خشية بعض الخبراء من ألا تقف حدود الحرب التجارية عند رفع البلدين للتعرفة الجمركية بينهما، وإنما أن تمتد رقعة الحرب وتتسع حتى تخرج من البعد التجاري إلى أبعاد أخرى، وفي تلك الحالة لن يكون في مقدرة أحد التنبؤ بحقيقة المشهد مستقبلا.

ويعتقد البروفيسور إل. دي ريتشارد أستاذ التجارة الدولية أن بقاء الصراع ضمن الأطر الراهنة، وعلى الرغم من مساوئه المتعددة يمكن تحمله، مستبعدا أن يؤدي بصورته تلك إلى كساد، وإن أدى إلى تباطؤ في معدلات النمو.

لكنه يحذر قائلا لـ"الاقتصادية": "إذا بالغ الطرفان في طبيعة الحرب التجارية، وواصلا التصعيد دون الأخذ في الحسبان المخاطر المستقبلية، فإن احتمال امتداد الحرب إلى مجالات اقتصادية أخرى سيكون كارثيا، فالتصعيد يؤدي حتما إلى معدلات نمو منخفضة، وامتدادها لفترة زمنية طويلة، يمكن أن يقود إلى حالة من الركود، وهذا يفتح الباب على مصراعيه إلى تحول نوعي في المعركة".

وأشار إلى أن الصين يمكن أن تقوم بالتخلص من جزء كبير من سندات الخزانة الأمريكية التي تستثمر فيها، وإن حدث هذا فسيشهد الاقتصاد الأمريكي هزة ضخمة يصعب حاليا التكهن بتبعاتها، كما يمكن للصين أن تخفض قيمة عملتها الوطنية لتشجيع الصادرات، وتلك مقدمة حرب العملات، ويمكن لواشنطن الرد برفع أسعار الفائدة لتحرم الصين من رؤوس الأموال الدولية، كما أنه توجد بذلك ضغطا رهيبا على القطاع الخاص الصيني لتسديد ما عليه من ديون دولية مقيمة بالدولار.

ويؤكد أن تلك الصفعات المتواصلة بين البلدين، إذا تحولت للكمات فستكون مفيدة لبعض الاقتصادات الناشئة، ولكنها ستكون مضرة للغاية بمعدل النمو العالمي ككل، وستوجد وضعا اقتصاديا رخوا ومليئا بالثغرات.