تبوح الحجارة في بلاد ما بين المائين
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

"تبوح الحجارة" في بلاد ما بين المائين

 فلسطين اليوم -

تبوح الحجارة في بلاد ما بين المائين

خالد الحروب

عند جذور جدران الحجارة في طول وعرض قرى وحواضر بلاد قداسة ما بين المائين هناك شهادة الكون الفائضة: تَخوْضُرُ الحجرِ واستنبات الزهر بين الشقوق يقول ان الناس هنا كانوا هنا قبل ضربة شق النهر وقبل صرخة وليد المهد. تغيّرُ لون الحجر وانحلاله مع بُنيّ الأرض وتماهيه فيه يقول ان نبع الماء سقى الشجر والحجر هنا، وظل يفور بالليمون، فيطلع فوق الاسطح وعلى الجباه. كلما اخضّرت الحجارة وتلاحمت اساساتها مع البني كلما هزِئت أسقفها واقواسها بالغزاة ... وتعالت واستطالت على قرميدهم الغريب النازل على الأرض بإستعلاء وفوقية. لطالما تحسر الغزاة على مشهد قرى فلسطينية بسيطة وفقيرة تطرز افق البلاد، لكن غفوتها على ساعد سلاسل الحجر البني، تزدري مستوطنات متوحشة البناء، فولاذية الجدران وصلبة الاسطح، متوترة لا روح فيها. روح السارق في أسقف قرميد الغزاة جففت أرواح ساكنيها. 
تحوم عدسة هذا الفلسطيني المبدع، اسامة السلوادي، رهيفة بلا كلل تلتقط الجمال المنثور في ارض طرية زاد جمالها كلما اصلب حجرها في وجه المحتلين. تدور، وتدور، تقترب، وتقترب، ثم تحضن العين ما تختار بكل الدقة ... والعناق. تتجول في سماء الأرض وفوقها كأنها كيوبيد الأليف والمحبب يحمل سهامه ويقنص بها القلوب. هذه المرة ترضى عنه فينوس، إلهة الجمال، وتربت على شعره كلما قنص صورة بديعة واودعها دفتي واحد من كتبه: «ملكات الحرير»،»كتاب القدس»، «كتاب الحصار»، «فلسطين ... كيف الحال»، و ... «ها نحن». يصيبنا السلوادي بسهام عدسته فلما نتصفح ما تلتقطه وقد مستنا اقدار الصبابة والأصالة والغموض، لا ندري عندها إن صرنا نتنقل بين صفحات صور ام نشاركه هذا العناق الطويل الممتد بطول الأرض مما احتضنته الكاميرا اللعوب. تتحول عملية التصوير الى عناق متواصل، إلى رحلة وئيدة الخطى في عوالم كنا نظن اننا نعرفها ونراها في عادي أيامنا. تجبرنا براعة عدسته على التأمل في ما كنا نراه دوما ونعبر عليه بلا إنتباه. تضطرنا الى التخلي عن السرعة التافهة التي تمتطينا عندما نمرُّ محاذين الجمال وغير آبهين به. أرتنا عدسته «ملكات الحرير» ... حقولا وبساتين وصبايا وتطريزات أثواب لم نكن نراها حقا رغم انها كلها كانت امام عيوننا دوما. عندما تصفحنا «الملكات» اخترقتنا حاسة البصر واخترقنا بها عوالم جديدة ... صرنا زرقاء يمامة في اكتشاف اقرب الأشياء إلينا. 
اليوم تخترقنا حاسة السمع ونخترق بها عوالم جديدة. يجبرنا السلوادي، هذا الكيوبيد الموهوب، ان نُصخي السمع بهدوء شديد إلى «بوح الحجارة»، وعنوان كتابه الجديد عن حجر فلسطين وعمارتها. ندني برؤوسنا وآذاننا إليها لتهمس لنا بكل الاسرار: بتواريخ الميلاد، وأسماء المواليد الأُول. بلون جدران الغرف، ونوافذ شموس الآلهة التي كانت تطمئن منها عليهم. تهمس في آذاننا بهتاف «في البدء كان الحجر» ... و»في الختام كان بقاء بناته وساكنيه». إن كنا تجولنا في صور «ملكات الحرير» رآيين ومعانقين، ففي «بوح الحجارة» نواصل التجوال والعناق ... منصتين وسامعين. تتوالى السردية الطويلة لهذه البلاد وأهلها بصرا وسمعا تجبلها الكاميرا والإلتقاط المتمهل. بين دفتي هذا الكتاب المصور ثمة اكثر من مائتي لوحة بديعة تحوم حول حجارة فلسطين وعمارتها وسلاسلها القديمة واسواقها العتيقة وجدران قراها المتكئة على كتف ماض عريق. تطوف الصور حول «الحجارة» كأنما كانت الشاهد اليقظ على بدء حراث أناس البلاد وزيتونهم. تحلق حولها وفوقها وتحتها فتستنطقها لتحكي وتستكمل الحكاية. إذن يمكن للحجارة ان تنطق في صور وان تبوح لنا بروايتها هي لملحمة الوجود الفلسطيني واستعصائه على الإذابة والإبادة. 
في البدء هناك بانوراما الصورة العريضة والكلية، الـ «زووم آوت»، تقول ان لهذا الحجر الذي شكّل وجه الأرض الطيبة وآوى ناسها مذاقا سحريا غريبا. وهو إذ يطلع من الأسفل صاعدا في جدار، او منحيا في قوس، او متعرجا في زقاق، او مصلبّا في شباك او مصطبة، او منتشرا بلا انتظام في كل مكان، فإنما ليكون إمتدادا آخر للناس والأرض والتراب. يُصبحون جميعا خلطة غامضة ومعروفة معا كزعتر البراري. يصّاعد الحجر طبقة إثر أخرى في اجواز شجر التين والسنديان، منداحا على امتداد سماوات ثمان.
 في اللقطات القريبة والحميمة، الـ «زووم إن»، نظل ايضا أسرى طائعين للكيوبيد وعدسته. يقودنا أولا الى «شبابيك»، الجزء الأول من سفره الحجري. وفيه تنفتح طاقات عتيقة في طول وعرض جدران الحجارة الطيبة. تنفتح للخارج، بثقة واطمئنان مُلّاك الزمن وأصحاب البيوت والكروم. ترحب بالمارين والغرباء: واسعة، عريضة، ولونها اخضر. تطل على بستان، او حارة، او فضاء منسدح، او تلة تتمايل فيها شجرة كلمنتينا تثغو تحتها ماعز. في احدى الصور المبدعة هناك حمامة بيضاء تطير فاردة جناحيها محاذية لشباك قديم، كأنما تفلت منه. الصدفة هي ما قادت العدسة والشباك والحمامة لموعد إقتناص اللقطة، كأنه موعد غرام امام الكون وكل البشر والاشياء. 
في «زووم إن» آخر نلقانا في «زخارف» مرصعة في الحجر وبينه وفوقه. هي الأخرى تشهد طول القصة وانزراعها. هذا زخرف «سيدنا الخضر» في رأس باب في بير زيت على صهوة جواده مصارعا الوحش الأسطوري وغارسا في صدره رمح تخليص الناس من شروره وافتراسه أولادهم. وهذا زخرف عثماني ممهور باسم الدولة العلية وسلطانها. وهذه زخارف يتوسطها صليب يعانق السماء كأنما العدسة تجثو في مذبح الأرض وتلتقط ما اعتلى. نقلبُ صفحة فيحضننا باب مترع بالعتق بجانبه مفتاحان كبيران يسيل منهما عرق حماة المحاريث. 
هنا «أبواب» محطة أخرى يتوقف عندها كيوبيد. أبوابً تلاحق أبواب في تصاوير والوان كأنما لم تكن. أكل هذه الأبواب تتوسط جدران حجارتنا ونمر عليها ولا نراها؟ يلتقي جداران حجريان في زاوية وادعة وكل منهما يتوسده باب بني محفور في خشبه العتيق خطوط سوداء مائلة. يتجاور البابان ويتقابلان كفلاحتين تثني كل منهما طرف ثوبها تحت الزنار وتتهامسان بتبسم حول عروس الحارة التي احمرت خجلا عندما مر زريف الطول. تبلغ «الأبواب» ذروتها في صورة مشرعة على صفحتين متقابلتين لجدار حجري طويل في منتصفه بابان، الوانهما البنية والزرقاء تقشرت مع الزمن، كما تقشر بياض حجارة الجدار وترنخت خطوط التقائها وانحناءات تشكلها بألوان غامقة من تراب تعب لا يتعب. على جانبي البابين نافذتان بنفس الألوان تستكملان نداء الامتداد الحجري على الجهتين. تنتهي الصفحتان ولا نرى نهاية امتداد قصة الحجر والابواب والنوافذ، ليس هنا نهايات، هنا التقاط للبدايات وامتداد الحياة فيها وحسب. بعد الذروة بصفحة يختبىء باب ملون بالشمس في طيات قوسين متلاحقين متناقصي الحجم. يتراخى الباب في العمق البعيد محتميا بما يوفره القوسان من أمان. ومن موقعه هناك وبألوانه القزحية الباهرة بفوضاها يطبع الإندهاش المستديم في عيوننا ... ومسامعنا. ينافسه في الإدهاش، إثر تقليب الصفحة، باب مزنر بقوس عريض يتواصل من قمة الباب وينسدل على الجانبين ليصل الأرض وتختفي جذوره في شجيرات صغيرة واشواك واخضرار متفلت. على يمين الباب ويساره جدار متماسك رغم تهالك بادِ تخترقه نباتات كأنما تشد من أزره. 
نترك الـ «أبواب» خلفنا لندخل إلى ال «اقواس» فنرى كيوبيد وقد تعربش في اقصى نقاط تحدبها تاركاً سهام عدسته تلتقط زوايا التقاء الاقواس مع زرقة السماء وبياض غيومها. في عمقها البعيد نرى تلاحق بيوتات الحجر. هنا تتحول الاقواس كلها الى أمهات من روح وحجارة لينة تحضن كل ما تحتها. من جوانب طيات ثوبها نرى افقا ثريا لا نهاية له. نرى بيوتا ونوافذ وابوابا وبرتقالا واشواكا وخيولا وعصافير تتدفق من اسفل الاقواس. اطياف لأمواج من الناس عطروها بالحكايا ورائحة التبغ، ودفعوها الى اعلى بأكتافهم يوم عبروا من تحتها. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تبوح الحجارة في بلاد ما بين المائين تبوح الحجارة في بلاد ما بين المائين



GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

GMT 21:30 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

الشرق الأوسط والموعد الصيني

GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 08:44 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الجدي" في كانون الأول 2019

GMT 13:39 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ابتعد عن بعض الوصوليين المستفيدين من أوضاعك

GMT 09:32 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تشعر بالإرهاق وتدرك أن الحلول يجب أن تأتي من داخلك

GMT 07:42 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تحتاج إلى الانتهاء من العديد من الأمور اليوم

GMT 05:35 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الملكة رانيا وبيلا حديد بسترة واحدة على "إنستغرام"

GMT 21:07 2015 الإثنين ,26 تشرين الأول / أكتوبر

شوارع بيروت تغرق في النفايات بسبب الامطار الغزيرة

GMT 07:21 2014 الجمعة ,31 كانون الثاني / يناير

زينة تلجأ إلى تحليل "DNA" لإثبات النسب لأحمد عز

GMT 09:17 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

«حماس» تتوارى عن الأنظار
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday