غزة بطولات إجبارية وحيوات معلقة
آخر تحديث GMT 04:53:15
 فلسطين اليوم -

"غزة": بطولات إجبارية وحيوات معلقة

 فلسطين اليوم -

غزة بطولات إجبارية وحيوات معلقة

خالد الحروب

يبدع عاطف ابو سيف ابن غزة حتى النخاع في توصيف مدينته ومخيماتها وناسها وصمودهم وتعبهم ويأسهم ودموعهم، واحلامهم الكسيرة في روايته الجديدة «حياة معلقة». يكتب بمداد خليطه عرق الناس وخلاصات المرارة ورحيق جمال تمجيد عادي الحياة وبشرها. ناتئة على حد الماء، تبدو غزة ثنية قمباز مطوية فوق حزام فلاح يتأمل عسقلان من مخيم الشاطىء.
 بوابة آسيا البرية، مهوى طمع الغزاة من الاسكندر إلى شارون، حاضنة قبر هاشم جد النبي العربي، يرقد ليس بعيدا عن مغطس القديس هيلاريون احد كبار رهابنة المسيحية في فلسطين. مرت عليها ازمان كانت فيها درة المتوسط الشرقي وتخطت اهميتها وانفتاحها مدن بقية الساحل الفلسطيني والسوري كحيفا ويافا وصيدا وبيروت. 
ليس فجأة تفيض عليها حرب النكبة بلاجئيها فترتبك في استقبالهم ومعهم مستقبلها الغامض. لم تتوقع يوما ما ان يبهط عليها في ايام قليلة اضعاف اضعاف سكانها. تشرع ابوابها وتصير، كما رفح وخان يونس وكل القطاع، محطة لاجئين. يرتمي اصحاب البيارات الواسعة والبيوتات الوديعة في خيام ضيقة سرعان ما تحيط بها قنوات المجاري الوسخة. هو بالتأكيد حلم عابر، بل كابوس مزعج سينتهي سريعا كما جاء. القادمون الجدد ما عادوا ضيوفا عابرين. تحولوا إلى ناس غزة وقطاعها. مشطورون بين حلم العودة الذي يسري كالدم في عيونهم، ومواجهة إكراهات الحياة اليومية. فتحوا دكاكين صغيرة، واخذوا اولادهم الى مدارس الوكالة. في كل صباح يعبون هواءً قادما من البحر، يملأ صدورهم ويهمس لقلوبهم ببعض الاشياء عن الأمكنة هناك. حمل شبابهم بنادق ولثموا وجوههم بكوفيات، قبلوا ايادي الجدات على مصاطب بيوت المخيمات وغابوا. 
من لم يغب انخرط في النضال ضد الحياة الباطشة والطائشة. تحولت الحياة مع زمن غزة المختلف والمُشتت إلى نضال دائم. من يمارس الحياة هنا، يمارس بطولة مفروضة عليه. لم يخترها، وربما لا يحب ان يُنعت بها او تلصق به. هذا هو حال نعيم صاحب المطبعة الوحيدة في المخيم، والذي وجد نفسه بطلاً رغم انفه. قبل ان تنطلق الانتفاضة الاولى في اواخر ثمانينيات القرن الماضي كان نعيم يطبع بيانات المقاومة بالسر. عرض نفسه وعائلته الصغيرة لخطر كبير، لكن نداءً داخليا كان يلح عليه. لما تلاحقت الانتفاضات صارت صور الشهداء المتلاحقين تلتقي في مطبعة نعيم، ومن هناك تخرج في «بوسترات» كبيرة تتزين بها ازقة المخيمات وشوارع المدن وواجهات المحلات. ازدحمت غزة ومدن القطاع بصور الشهداء. نعيم يحتفظ بالصور الاصلية لكل شهيد. يتصفحها في بعض الليالي ويحدق في عيون الشباب الغضة كما الورد. يسيل دمع صامت من عيونه وهو يقرأ في عيونهم احلامهم. يدفع بالصور في الدرج السفلي لطاولة قديمة، ويمسح دمعته قبل ان يغادر المطبعة الى بيته. هناك تأتيه صورة آمنة. زوجته التي رحلت مبكرا وتركت له ثلاثة اولاد وبنت في عمر النعنع. آل على نفسه الا يتزوج ويرعى اولاده. قال للمختار الذي ضغط عليه ان يتزوج:  لو كنت انا من مات لما تزوجت آمنة ولأصرت على البقاء مع الاولاد لتربيتهم. يكبر الاولاد وتتفرق بهم سبل غزة: سالم في السجن محكوم بخمس مؤبدات، سليم حالم دائم بالسفر واكمال الدراسة في الخارج ويغادر، سها تتزوج وتذهب مع زوجها الى السعودية، سمر تبقى مع ابيها تكمل دراستها الثانوية. 
لا يزعم نعيم اية بطولة ويرفض ان تؤخذ له صور، فهو يقوم بعمله وحسب، كما يقول. كل آمانية ان يخرج سالم من السجن ويعود سليم من السفر وتزوره سها ويلتقون جميعا على «الطبلية» يفطرون في الصباح، ويشربون الشاي بالميرمية. حلم اصغر من صغير، لكن صاحبه يموت قبل ان يتحقق. يقتل فجأة بطلقة قناص اسرائيلي صبيحة يوم عادي وهو يهم بفتح باب المطبعة. تنخلع قلوب اهل المخيم على نعيم الذي احبه الجميع: المختار وصفي، والحاج خليل، ويوسف مجايليه في العمر، ونصر وآخرون من الشباب الذين طوق نعيم اعناقهم بخدماته النضالية والسرية. يعود سليم على وجه السرعة من ايطاليا كي يحضر جنازة ابيه الذي تاق لعودته تلك، ويرفض ان يُعمل لأبيه بوستر كي يوزع في انحاء المخيم كبقية الشهداء. لا يريد لأبيه ان يُختزل في بوستر، ثم انه ليس بطلاً، يقول، بل ضحية. ينخرط سليم في مرافعة ونقاش طويلين مع نصر، ممثل النضال الشبابي المتواصل في الرواية، حول معنى ومغزى البطولة التي لم يخترها نعيم. يغضب نصر من نزق سليم وفلسفته ورفضه لفكرة البوستر، فنعيم احق اهل المخيم ببوستر يليق به وهو الذي كان قد صمم بوسترات لكل شهداء المخيم وغيرهم. 
لم يكن هذا نقاشاً عابراً، بل يتمحور ويتقلب ويصير جوهر الرواية. شخوصها واحداثها يركضون (ويلعبون) في ملعب ثلاثي الاضلاع ميدان الحياة للبشر هنا. ضلعه الاول مطبوع عليه بوسترا يحمل شارة النصر ويقول: إننا ابطال، والضلع الثاني عليه بوستر يحمل صورة أم ثكلى ينهمر دمع من عيونها على ابنها الشاب، ويقول: نحن ضحايا، والضلع الثالث ليس عليه شيء سوى عبارة صغيرة تقول: بل نحن إناس عاديون، فُرضت علينا البطولة كما البكاء. في مركز هذا المثلث المتوتر نتابع عاطف ابو سيف، وهو بإقتدار روائي وبثقة ينتقل إلى الصف الاول من روائيي العربية اليوم، يدير شخوص روايته ويحاول ان يريح حيواتهم المعلقة من «التعليق» الذي يشدها ويمزقها في الاتجاهات الثلاثة. هو سجن من نوع اكثر لؤماً، حيث البطولة ذاتها تصير سجنا داخل سجن. 
في هذا المثلث نتابع اندراج عقود السنين من لحظة اللجوء الاولى إلى تلاحق الحروب، ثم الانتفاضات، وقيام السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينات، وصولا الى الانقسام وسيطرة حماس على قطاع غزة. تتبدل بعض ملامح الحيوات لكنها تظل معلقة، جميعها برسم الإنتظار: إنتظار ينتظر السجناء حتى يخرجوا، والمسافرين حتى يعودوا، والصغار حتى يكبروا، والكبار حتى يموتوا. إنتظار لمشاريع لم تكتمل، وقصص حب ظلت متشظية، ولمعبر رفح حتى ينفتح. إنتظار رهيب يغلف هذا القطاع من رفح إلى بيت حانون. 
يختار عاطف ابو سيف ان تكون هناك «تلة المخيم» التي تختصر تاريخه: هنا بنى الانجليز نقطة لهم بسبب ارتفاع التلة واطلالتها على الجوار ومدى الرؤية الذي تمنحه. هنا وصل اوائل اللاجئين، احترقت خيامهم. وهنا اقامت اسرائيل ما كان اقامه الانجليز من نقاط سيطرة عسكرية. لكن هنا ايضاً قتلت المقاومة ضابطا اسرائيلياً، وبعده «تحررت» التلة. فيها اقام نعيم مطبعته، وعليها سكن الحاج خليل وابنته يافا. يافا التي يعشقها سليم، ابن نعيم، لكنه يقدم طموحه، وانانيته، بالسفر ومتابعة احلامه على العشق الرهيف الذي كسر قلب يافا. تنطوي على جرح قلبها وتنشط في جميعات حقوقية وسياسية، ثم تسافر الى لبنان في مهمة عمل، وهناك تبحث عن عمها المفقود الذي سمعت قصصه الف مرة من ابيها المكلوم على فقدانه. في مخيم عين الحلوة تعثر عليه، وتتطور علاقة مع ابنه، ابن عمها، الذي تأتي به إلى «القفص»، الى غزة، او الى فلسطين التي عشقها طيلة حياته، كي يتزوجا. كأن الفرحة بإبن اخيه لم يتحملها قلبه الصغير، فيموت الحاج خليل بعد لقائه مع نادر بيومين فقط. تعود يافا ونادر وآخرون الى طابور الانتظار، بعد ان ظنوا انهم خرجوا منه ولو قليلاً.
«التلة» هي افق المخيم الجميل. ينظر اهل المخيم اليها فيرون البيوت الخمسة الوحيدة يتوسطها بيت الحاج خليل ومطبعة نعيم، فيمدهم ذاك بطمأنينة غامضة. يصعد «الشباب» اليها ونصر يتقدمهم. ورث عن ابيه الشهيد حبه لفلسطين وشعورا مقداما لا يهاب، يظل يبعث في قلب امه التي ترملت شابة خوفا عميقا بأن يلحق بأبيه باكراً ايضا ـ يغادر ذات صباح بعد ان يشرب كأس شاي بالميرمية، يمص عِرق الميرمية بعد ان ينهي الشاي، يقبل زوجته، يخرج ثم لا يعود إلا محمولا على الهتافات. ظلت التلة متعمدة بقصص بطولة تفاقمت المبالغة حولها حتى صارت اساطير، إلى ان جاء العميد صبحي بقرار من حكومة غزة يقضي بهدم البيوت على التلة واستثمار الارض في مشاريع تفيد المخيم: مول كبير، ومسجد كبير، ومركز شرطة كبير. المشروع كله قائم على الفساد والمستفيد الاكبر منه هو خميس، ابن الحكومة، والذي صار «البزنس» جزءاً من حياته. وبعد ان كان مجاهدا مغوارا صار يجاهد في تجارة الانفاق، والان يريد فتح مول فوق التلة. العميد صبحي مستفيد ايضا لأن خميس وعده بعدة محلات في المول. اما مركز الشرطة والمسجد فكأنهما الحارسان او المُشرعان الضروريان لوجود «المول»: الاول يمنح الحماية الامنية، والثاني يمنح الشرعية الدينية. صمدت «التلة» في وجه اسرائيل لأن الناس كانت تعرف انها تواجه عدواً واضحاً، سقطت «التلة» يوم ضاعت البوصلة بين «المول» و»المسجد» و»المخفر»، وما عاد احد يواجه عدوا واضحا. 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غزة بطولات إجبارية وحيوات معلقة غزة بطولات إجبارية وحيوات معلقة



GMT 21:38 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

سيمافور المحطة!

GMT 21:36 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

يراها فاروق حسنى

GMT 21:34 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

«بكين» هل تنهي نزاع 40 عاماً؟ (2)

GMT 21:32 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

ماذا حل بالثمانيتين معاً؟

GMT 21:30 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

الشرق الأوسط والموعد الصيني

GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

القاهرة - فلسطين اليوم
هيفاء وهبي خطفت الأنظار بالتزامن مع احتفالها بعيد ميلادها بأناقتها ورشاقتها التي ظهرت بها خلال حفلها الأخير الذي أحيته في قطر، حيث أبهرت النجمة اللبنانية جمهورها على المسرح بطلتها اللامعة بفستان مرصع بالكامل بحبات الكريستال، وبهذه الإطلالة تعود هيفاء وهبي لستايل الفساتين المجسمة التي تتباهي من خلالها بجمال قوامها وهو التصميم الذي كانت تفضله كثيرا أيقونة الموضة، وذلك بعد اعتمادها بشكل كبير على صيحة الجمبسوت التي أطلت بها في معظم حفلاتها السابقة. هيفاء وهبي سحرت عشاقها في أحدث ظهور لها على المسرح خلال حفلها الأخير بقطر بإطلالة جذابة بتوقيع نيكولا جبران، حيث اعتمدت أيقونة الموضة مجددا التصميم المحدد للقوام مع الخصر الذي يبرز بقصته الضيقة مع الحزام جمال قوامها، حيث تمايلت هيفاء وهبي على المسرح بأسلوبها الأنثوي المعتاد بف...المزيد

GMT 11:15 2020 الإثنين ,20 إبريل / نيسان

بريشة : علي خليل

GMT 10:21 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 10:16 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 13:30 2017 الإثنين ,09 تشرين الأول / أكتوبر

تقديم عطر أرماني كود النسائي الأفضل لفصل الشتاء

GMT 04:23 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ريتا اور تتألق في إطلالة رائعة تجذب الأنظار

GMT 18:37 2017 السبت ,03 حزيران / يونيو

الشرطة تحبط محاولة قتل في إحدى مستشفيات نابلس

GMT 14:51 2019 الثلاثاء ,02 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday